لابد أن نجاوز القرون التي تفصل بين العصر العباسي والعصر الحديث؛ لنرتفع من جذور قضية الحداثة إلى ساقها. ذلك أننا لا نجد في تلك القرون جديداً في القضية، وكأن النقاد قنعوا بالأحكام النظرية العادلة التي وضعها ابن قتيبة، وأخذوا بها من بعده، واستراحوا من الجدل في القديم والحديث. ولا ننسى أن انشغالهم بالأبحاث البلاغية الصرفة، وعدم ظهور سمات تجديدية في الشعر تشدهم إليها، زاد من قناعتهم وصرفهم عن القضية.
فإذا عبرنا إلى شاطئ العصر الحديث، فإن أول ما يستوقفنا هو أن العصر بأكمله قد وسم بالحداثة، وأن النقاد ومؤرخي الأدب مجمعون على تسميته بالعصر الحديث في الأدب أيضا. وأنه يبدأ- في عرفهم- بمطلع القرن التاسع عشر الميلادي. ولا بد- والأمر كذلك- من وقفة مستأنية، ولتكن وقفة في أرض مصر.
ففي بداية هذا العصر بدت بوادر التغير في الحياة الراكدة، ورحل جنود الحملة الفرنسية وعلماؤها من مصر، بعد أن هزوا المجتمع المصري من أعماقه. واستطاع محمد على باشا بعد سنوات قليلة أن يبدأ نهضة واسعة، ظهرت آثارها في توسعه العسكري، والحركة العمرانية، والبعثات الدراسية، وتشجيع الترجمة والطباعة، ثم تابع النهضة ابنه إسماعيل- الذي خلف عباساَ وسعيداً-. وكان هذا الحاكم مفتوناً بمظاهر الحياة الأوربية، فعمل على نقلها إلى مصر، وصرف في سبيل ذلك أموالاً طائلة، وفي الوقت نفسه، أخرجت المطابع عدداً من دواوين الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين، وأصبح في مقدور المثقفين أن يقفوا على عيون الشعر العربي، كما نشرت أمهات كتب التراث ككتب الجاحظ وابن المقفع وابن العميد وابن خلدون غيرهم. وبدأ النثر يتخلص من قيود السجع والتكلف، في كتابات رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم من كتاب العصر، فكان أسبق من الشعر إلى التحرر.
وأما الشعر فكان في حالة من السقم تقارب الموت. وكانت تمثله نماذج هزيلة، ليس فيها إحساس صادق، ولا تعبير فني ناضج، وتغطى ركاكتها ،في كثير من الأحيان، بألوان من البديع المصطنع تبدو مثل زركشة على كفن، وتعبر بصدق عن الحياة الراكدة في أواخر العهد العثماني.
وقد حاول بعض الشعراء- أمثال: محمود صفوت الساعاتي، وعلي أبي النصر، وعبد الله فكري، وعائشة التيمورية، أن يتحرروا من الأسلوب المتخلف، ولكنهم لم يبتعدوا عنه كثيرا، وكان مقدورا للشعر أن ينتظر ظهور الشاعر العبقري، الذي يتمثل ما تنتجه المطابع من الموروث الشعري الأصيل، ويرتقي إلى درجة تقترب من فحوله. وكان الشاعر هو محمود سامي البارودي.
ويعدّ النقاد ومؤرخو الأدب شعر البارودي بداية الشعر الحديث ويخصونه باصطلاح: شعر الإحياء؛ لأنه باكورة الحداثة.
فما الحداثة في هذا الشعر؟ وما موقف النقاد من حداثته؟
يذكـر الذين كتبوا عن البارود أنه انكب على دراسة التراث الشرقي، وأن شاعريته تفتحت بعيداً عن الشعر السقيم الذي كان يعاصره، وأن قصائده الأولى كانت معارضات لقصائد أبي تمام والبحتري- والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي . فيكون بذلك أول شاعر في العصر الحديث يدخل ساحة الشعر بديباجة عربية أصيلة.
ولو نظرنا في ديوان البارودي، لوجدنا أنه لم يأت بجديد، لا في موضوعات الشعر، ولا في شكله. بل إنه لم يخرج عن موضوعات عصره التقليدية. وشعره موزع بين المديح والهجاء والفخر والغزل ورياضة القافية، إضافة إلى لون، وجداني ساقته أحداث حياته.
ولكنه جاء بجديد إذا قسنا شعره بشعر معاصريه، جديده في الديباجة والأسلوبن وترك التكلف والبهرجة، فهو بهذا المقياس- ((حديث)) بين، شعراء يعيشون على القيم الفنية التي سادت في عصور الضعف والانحدار، وشعراء يحاولون التخلص منها، ولكنهم لا يحلقون، وهو بذلك رائد الحداثة، ريادته في العودة إلى التراث الشعري الأصيل، ومخالفة الذوق الأدبي الشائع في عصره. وهي مخالفة تجاوز السقيم إلى السليم.
إن الحداثة في شعر البارودي لا تحمل أي جديد بالمعنى اللغوي للجديد (أي الذي لم يكن موجوداً من قبل)، ولكنها تحمل جديداً بالنسبة للعصر الذي كان فيه، للبيئة الشعرية المحيطة به، وجديده أسلوب عربي كان مدفونا في الكتب، بعيداً عن الواقع الشعري، وليس فيه أي لقاء مع أية ثقافة غير عربية، ولا ردة فعل لثقافة أجنبية وافدة، فالثقافة الوافدة آنئذ قليلة الشأن. وقد كانت حداثته- أو عودته إلى التراث الشعري الناصع- أنقع للشعر العربي من أية صورة أخرى يمكن أن يأتي بها.
ومن المفيد أن نذكر أن النقاد المعاصرين للبارودي لم يهتموا بجديده، ولم يستخدموا اصطلاح ((الحداثة)) في وصف شعره، ولكن بعضهم- وفي مقدمتهم الشيخ حسين المرصفي-[1] أعجبوا بقوة شعره، وقارنوه بالشعر العباسي، واستخدموا المقاييس البلاغية القديمة في إظهار حسنه. وكان أفضل نقد لشعره يقوم على الموازنة بين إحدى قصائده وإحدى قصائد أعلام الشعر العباسي. وطبيعي ألا نتوقع من هذا النقد أن يقدم أي مفهوم أو تطوير لمفهوم الحداثة.
تحديث خلفاء البارودي ((المحافظين))
لم يكن لاتجاه البارودي صدى واسع في عصره، غير أنه آتى أكله في الجيل التالي، عندما نهض به شوقي ومطران وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وغيرهم. وقد عكف هؤلاء على قراءة شعره، إضافة إلى الشعر العباسي الذي أصبح في متناول أيديهم، وتأثروا بنماذجه المثلى، ويدل على ذلك معارضتهم الشعرية الكثيرة- وما زالوا يتزودون من عيون الشعر حتى استقامت لهم أساليبهم المتأثرة بها، فاستطاعوا أن يقيموا نهضة شعرية حقيقية، بعيدة كل البعد عن شعر التكلف والانحطاط، واستطاعت نهضتهم أن تؤثر في شعراء الوطن العربي، وأن تنهي آثار التخلف والانحطاط. وقد سماهم الجيل الذي خلفهم ((المحافظين))؛ لأنهم ترسموا خطا البارودي في المحافظة على جزالة الأسلوب العربي القديم ورصانته. وهم بلا شك محافظون في حدود هذا المعنى، ومحافظون أيضا؛ لأنهم لم يتخطوا حدود الثقافة العربية والقيم الشعرية الأصيلة إلا خطوات قليلة، وقد كانت الفترة التي عاشوها تتطلب ذلك.
وقد ناقش الدكتور شوقي ضيف محافظتهم، وحررها من شبهة الجمود والتخلف فقال: ولكنهم ليسوا محافظين بالمعنى السيئ للمحافظة، حيث يكون الشاعر نسخة مكررة لمن سبقه، أو يكون طبق الأصول التي يطلع عليها دون حذف أو تغيير، فتلك مرتبة عقيمة زهد فيها هؤلاء الشعراء وانصرفوا بقدر ما وسعتهم جهودهم، وسعوا لتكوين شخصياتهم الشعرية المستقلة، وفرضوا ثقافتهم وقضايا عصرهم على شعرهم، ولاءموا ملائمة جيدة بين القديم والجديد، بين الأسلوب العربي في جزالته ورصانته وروح العصر، ووجهوا الأذواق الأدبية إلى الوضع الذي يمكن أن نتدرج إليه بعد البارودي [2].
لقد كان شوقي وحافظ وصبري.. مجددين، بالمعنى الضيق للتجديد، وذلك في أول عهدهم، وبالتحديد في العقد الأول من القرن العشرين؛ إذ جاءوا بصوت جديد في الشعر العربي موضوعاً وأسلوباً، ولم تكن أصواتهم مجرد أصداء لصوت البارودي، فإن أي قارئ لشعرهم يحس أثر البارودي فيه، ويحس أيضاً أنهم أصوات متميزة تختلف عن البارودي في يسر الأسلوب، وتخلصه من الاستعمالات القاموسية البعيدة عن العصر، وتختلف في الموضوعات الحية التي تتصل بالحياة العامة في عصرهم، وقد كانت لديهم طاقات شعرية ضخمة، تملك ناصية اللغة وخصوبة البيان، وأسرار النغم الموسيقي، وعذوبة الأداء، فترددت أنغامهم في أرجاء الوطن العربي كله.
على أن شوطهم في التجديد كان قصيرا، إذ وقفوا عند الخطوات القليلة التي خطوها بعد البارودي، وأخذ شعرهم يكرر نفسه ولا يأت بجديد إلا في عناوين القصائد بينما الأفكار متقاربة، ولا أكاد أستثني بهذا الحكم أحدا من المحافظين، اللهم إلا نبضات التجديد في مسرحيات شوقي الشعرية، وبعض جوانب الحداثة في شعر مطران. وهذا الأخير يطبّل له بعض الدارسين، ويعده مظهرا للحداثة يهب القرن العشرين، وإمام الحركات المجددة التالية ولا بأس من التريث عنده للتحقق من هذه الدعوى.
فالدكتور محمد مندور يرى أنه رائد الحداثة والتجديد في الشعر العربي، ويقول عنه: ((إن الإجماع يكاد ينعقد على أن خليل مطران، يعتبر رائدا للمدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر، حتى ليكاد يختط طريقاً يشبه الطريق الذي أخطته في العصر العباسي بمدرسة البديع- وعلى رأسها أبو تمام- في مواجهة مدرسة عمود الشعر- وعلى رأسها أبو عبادة البحتري-؛ وذلك عندما يقارن النقاد بين مدرسة البارودي وأحمد شوقي وحافظ وغيرهم ممن ساروا على عمود الشعر العربي والمدرسة الحديثة التي تنتسب إلى مطران، وتمتد في جماعة أبولو خلال أحمد زكي أبو شادي و إبراهيم ناجي ومن ساروا على دربهما من الشعراء الناشئين في مصر وغيرها من البلاد العربية [3].
ويذهب أبعد من ذلك فيشبهه بالشاعر الفرنسي أندريه شينيه، الذي قاد الحركة الكلاسيكية الجديدة قبل الثورة الفرنسية، وهي الحركة التي جمعت بين الصياغة اللغوية الفصيحة والأفكار الجديدة المعاصرة.
وفي ظني أن مطران كان واحدا من المجددين: وليس ((رائدا للمدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر)) وأنه دون مرتبة الريادة، سواء في شعره، أو في تأثيره فيمن بعده.
وعندما نرجع إلى ديوانه نحسّ أنه أكثر شعراء جيله تأثرا بالثقافة الفرنسية، فقد ترجم قصائد كثيرة من شعرها، وناقشها، وعارضها وتأثر بها، وتنبه إلى بعض القيم الفنية في الشعر الفرنسي، ودعا الشعراء العرب إلى الأخذ بها، واهتم بوحدة القصيدة ودعا إليها، وإلى عدد من القيم الشعرية التي لم تكن سائدة بين معاصريه، فقال في مقدمة ديوانه: ((هذا شعر ناظمه لا تحمله ضرورات الوزن أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الصحيح، ولا ينظر قائله إلى جمالا البيت المفرد ولو أنكر جاره وشاتم أخاه ودابر المطلع وقاطع المقطع وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه، إلى جمال القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة وشفوفه عن الشعور الحرّ وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر)) [4].
ويبدو في تقويمه هذا أن الشعر في مفهومه تعبير نفسي تتجلى فيه الوحدة الفنية الموضوعية، وأن قواعد الحزن والقافية إنما هي لخدمة معاني الشاعر. وإشارته هذه إلى وحدة القصيدة هي- فيما أعرف- أول إشارة إلى قضية وحدة القصيدة في العصر الحديث، وقد طبقها في بعض قصائده الشعرية، ولا سيما في القصائد القصصية.
على أنه لم يستطع أن يحقق- في معظم شعره- ما نادى به في مقدمة ديوانه فصياغته تكاد تداني الصياغة التقليدية- ولعل مقدمته النثرية للديوان كما يرى القارئ توحي بذلك أيضاً- وهي متأثرة بالأساليب العربية القديمة إلى حد بعيد، مع تفاوت ملحوظ في الجزالة، كما أن موضوعات شعره تترواح بين بعض الموضوعات الوجدانية- كالتأمل والغزل والشكوى... وبين الموضوعات التقليدية العتيقة، كالمدائح والمراثي وشعر المناسبات.
وأما تأثيره فيمن بعده، وخصوصاً شعراء أبولو الذين ذكرهم مندور- فهو ضئيل لا يرقى به إلى الريادة والإمامة، ذلك أنه لم ينجح في إشاعة ما دعا إليه بين الشعراء، ولم تتكون له مدرسة شعرية على نحو ما تكون للبارودي ولشوقي من بعده، وشعراء أبولو كانوا في معظمهم على قدر وافر من الثقافة الإنجليزية، وقد تأثروا بمدارسها الشعرية مباشرة، وتأثر بعضهم بالديوانيين الثلاثة- العقاد وشكري والمازني-. ولعل الديوانيين هم أقرب من قرأ شعر خليل مطران، والتقوا معه في عدد من مفهومات الشعر. والمعروف أن مصادر مطران الفرنسية تلتقي مع الرومانسية الإنجليزية التي تأثر بها الديوانييون- وتوجه الشاعر نحو ذاتية التعبير والاهتمام بالخيال والتخلص من القيم الفنية الكلاسيكية.
تحديث الديوانين:
يطلق الدارسون اصطلاح الديوانيين على الشعراء النقاد الثلاثة: عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، وهؤلاء الثلاثة هم الذين تركوا بصمات عميقة في تطوير عدد من عناصر الشعر العربي الحديث، وجاءوا بخيوط كثيرة من الحداثة تنظيراً وتطبيقاً.
وكان أسبقهم إلى التحديث عبد الرحمن شكري، الذي نشر دواوينه الشعرية قبل زميليه، وضمنها عددا من آرائه الجديدة، ثم شاركها في إصدار بعض المقالات النقدية التي تدعو إلى التحديث وتنتقد معظم القيم الشعرية في شعر المحافظين، ثم انفصل عنهما، واقتصر على كتابة الشعر وعدد قليل من المقالات، على حين أصدر العقاد والمازني كتاب ((الديوان)) الذي ضم خلاصة القيم الحديثة التي يدعون إليها، وأحدث ضجة كبيرة. وبعد أقل من عقد من الزمن خفت قوة الاتجاه، إذ هدأت حدة المازني في النقد، وسكت صوته في الشعر، وغاب عبد الرحمن شكري عن الأنظار، لا يظهر من شعره إلا قصائد قليلة تنشر على فترات متباعدة، وظل العقاد وحده يصدر دواوينه ويتابع حملاته النقدية العنيفة.
وقد كان الأعلام الثلاثة على قدر كبير من الثقافة الغربية، ولاسيما الإنكليزية تعمقوا في دراسة آدابها، وأخذوا من شعرها ونقدها شيئا كثيراً، فكانوا بحق مدرسة جديدة في الشعر العربي ونقده، وصفها العقاد نفسه بقوله:
مدرسة لا شبه بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنكليزية، ولم تقتصر قراءاتها على أطراف من الأدب الفرنسي- كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر- وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنكليز، لم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلها استفادت من النقد الإنكليزي الحديث فوق فائدتها من الشعر وفنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت إن (هازلت) هو إمام هذه المدرسة كلها في النقد؛ لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة، ومواضع المقارنة والاستشهاد.
وقد استفاد الأعلام الثلاثة من ثقافاتهم الواسعة، وثاروا بتأثيرها- على عدد من القيم السائدة، في الشعر الذي يكتبه المحافظون، وحاولوا زحزحة الأصول التقليدية التي يتبعونها، ودعوا إلى مفهومات جديدة للشعر وعناصره، وجعلوا دعوتهم معلم الحدأة، والأخذ بها تحديثاً للشعر. ويمكن إجمال أهم معالم الحداثة التي دعوا إليها فيما يلي:
أولاً تطوير مفهوم الشعر: كان الشعر في مفهوم المحافظين صناعة متقنة، تقوم على مجموعة من القواعد والقوانين، يحذقها أصحاب التراث الموضوعيون من نقاد ولغويين وبلاغيين، والشاعر هو القائل الفصيح أولاً. وقد رفض الديوانيون هذا المفهوم وقدموا مفهوماً جديداً، يكون الشعر فيه إبداعا يعبر عن ذات الشاعر، ويصور عالمه الداخلي بكافة مناحيه، وطاقاته النفسية وملكاته الإنسانية، ويصدر عن الشعور، ويضطرب بالعاطفة؛ يقول عبد الرحمن شكري عن الشعر: ((هو كلمات العواطف والخيال والذوق السليم، فأصوله ثلاثة متزوجة، فمن كـان ضئيل الخيال أتى شعره قليل الشأن، ومن كان ضعيف العواطف أتى شعره ميتاً لا حياة فيه؛ فإن حياة الشعر في الإبانة عن حركات تلك العواطف، وقوته مستخرجة من قوتها، وجلاله من جلالها، ومن كان سقيم الذوق أتى شعره كالجنين ناقص الخلقة)) [5].
وهناك تعريفات مشابهة لتعريف عبد الرحمن شكري أوردها العقاد والمازني في ثناب انقدهم، تؤكد التفاف الأعلام الثلاثة حوله المفهوم ذاته.
ثانياً: تطوير مضمون الشعر: اهتم الشعراء المحافظون بالقضايا العامة أكثر من اهتمامهم بالوجدان الفردي، فلما جاء الديوانيون عملوا- بتأثير قوي من الرومانسية الإنكليزية التي تأثروا بها- على توجيه الشعر نحو الذات، وطلبوا من الشاعر أن يهتم باستبطان وجدانه قبل كل شـيء، وأن يعبر عن إحساساته بحرية تامة.
وعلى الرغم من أن العقاد لم يمانع في أن يطرق الشاعر موضوعات الحياة اليومية في البيت أو الطريق أو الدكان، فإنه اهتم اهتمام عظيماً بالعالم الداخلي للشاعر، وجعل التعبير الصادق عن هذا العالم الخاص مقياس الجودة المثلى للشعر فقال: ((إن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيا ووجداناً تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة ا لجوهرية)).
وقرر المازني أن الشعر مرآة لنفس الشاعر، فيه روحه وإحساسه وخواطره ومظاهر نفسه، سواء أكانت جليلة أم دقيقة، شريفة أم وضيعة.
وذهب عبد الرحمن شكري المذهب نفسه، فجعل الشعر لغة العاطفة ومحركها، وهكذا وجّه الديوانيون الشعر وجهة وجدانية، تهتم بالعاطفة قبل كل شيء وكان توجيههم هذا جديدا على الشعر العربي ونقده.
ثالثاً: تطوير في الشكل:
أ- الدعوة إلى وحدة عضوية للقصيدة، بحيث تصبح- كما يقول العقاد- عملا فنياً تاماً يكمل فيه تصور خاطر أو خواطر متجانسة. بحيث إذا اختلف الوضع أو تخيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها، فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يغني عنه غيره في موضعه)).
غير أن النقاد أخذوا على العقاد أنه لم يجاوز- في دعوته للوحدة العضوية- وحدة الموضوع، وأنه لم يحقق في شعره أكثر من ذلك.
ب- الدعوة إلى تطوير الصورة الشعرية: استفاد الديوانيون من التطوير الكبير الذي أحدثه الرومانسيون الغربيون، في مفهوم الصورة الشعرية واستعمالاتها؛ فاهتموا بها اهتماما كبيرا، وعـدوها عنصرا أصيلا في البنـاء الشعري، تنقل الأحـاسيس وتهتم باللباب والجوهر... في العلاقة بين الأشياء، لا بالتشابه الخارجي، وهاجموا الصورة التقليدية التي يعتمد عليها الشعراء المحافظون واتهموها بالافتعال والمبالغة، والنمطية والتصميم، والحسية الحرفية الشكلية. يقول العقاد في هجومه العنيف على شوقـي وأسلوبه في التصوير: إذا كان كذلك من التشبيه أن تذكر شيئاً أحمر، ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الإحمرار فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء، بدل شـيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس)) [6].
جـ- الدعوة إلى التحرر من القافية: كان عبد الرحمن شكري من أوائل الشعراء الذين حاولوا التخلص من القافية الموحدة، وقد كتب عدة قصائد لم يراع فيها وحدة الروي، كما أن العقاد تبنى الدعوة لترك القافية، وعدها إحدى معوقات الشعر العربي عن التطور؛ قال: ليس بين الشعر العربي وبين التفرد والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول، بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية، وشعراء الوصف، وشعراء التمثيل، ولا تطول نقرة الأذن من هذه القوافي، ولاسيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان)) [7].
ولكن العقاد تراجع عن رأيه هذا بعد ثلاثين سنة، وقرر أن انتظام القافية متعة موسيقية تخف لها الآذان، وانقطاع القافية بين بيت وبيت شذوذ يحيد بالسمع عن طريقه الذي اطرد عليه. ودعا إلى حلٍّ وسط يسمح بتنويع القافية في القصيدة دون أن يلغيها [8].
تلك هي أهم معالم الحداثة في حركة الديوانيين، وقد عزا النقاد هذه المعالم إلى القيم الرومانسية الغربية، والإنجليزية بالذات- التي أثرت في الديوانيين، فيرى الدكتور محمد مندور (أن المنهج الشعري الذي اختارته هذه المدرسة ودعت إليه هو نفس المنهج الذي صدر عنه جامع ((الكنز الذهبي)) في اختيار ما اختار من الشعر الغنائي الإنكليزي) [9]. ويذهب الدكتور محمود الربيعي إلى أنهم نقلوا المبادئ التي دعوا إليها بدقة عن النقد الإنكليزي، في حين قام دارس آخر بالبحث عن مصادر آراء العقاد في كتابات الشعراء والنقاد الرومانسيين في أوربا وأمريكا، وعقد مقارنات طريفة وقيمة تؤكد هذا النقل [10].
ولم ينكر الديوانيون تأثرهم بالرومانسيين الغربيين شعراء ونقادا- بل أعلنوا على الأشهاد، أنهم تأثروا بهم واستفادوا منهم، وأخذوا أفضل ما عندهم، دون أن يحصروا أنفسهم في آثارهم. وقد مر بنا قبل قليل تصريح العقاد عن تأثره وزميليه بالشعر الإنجليزي وغيره، ولكنه دفع بقوة شبهة التقليد، وقرر أنهم كانوا في موقع الاختيار لا التبعية.
ولا شك أن الديوانيين جاؤوا الشعر العربي بعدد من القيم الفنية الأصيلة، استمدوا معظمها من الشعر والنقد العربي بعامة، والإنكليزي بل والرومانسي الإنكليزي بخاصة، وأفادوه في عدة جوانب، منها: إعادته إلى التعبير عن الوجدان الفردي في إخلاص وصدق، وقد عاش الشعر العربي من قبل فترات على هذه الشاكلة، في شعر بعض الشعراء الجاهليين وفي قصائد الغزليين والصوفيين وعدد من الشعراء أصحاب الاتجاهات الفردية؛ كابن الرومي وأبي العلاء وأبي فراس والمتنبي في غير مدائحه، ولا يكاد عصر من العصور يخلو من هذا الشعر. لذلك فإن دعوة الديوانيين إلى هذا اللون من الشعر ليست جديدة على الشعر العربي في تاريخه الطويل، ولكنها ليست دعوة نابعة من صور الشعر الوجداني في تاريخ الشعر العربي... ولا يمكن إلا أن تكون متأثرة إلى حد كبير بالاتجاه الرومانسي الغربي، كما أنها تحمل عناصر مغايرة لما كان سائدا ً بين شعر المحافظين....
ولعلنا بهذا التفسير نجد إجابة مقنعة للتساؤل الذي يثور في ذهن من يقرأ آثار الديوانيين: لماذا تفوقت دعوتهم النظرية على تطبيقهم العملي؟.
ولا يخفى على القارئ أن شعر الديوانيين- ولاسيما العقاد ثم المازني- لا يحقق أحياناً المبادئ التي دعوا إليها، ولا يخلو من المعاني والموضوعات والمشكلات التي هاجموها بشدة. والطريف أن العقاد نفسه وقع مرة في الفخ الذي أوقع فيه أمير الشعراء أحمد شوقي من قبل، وأن الدكتور محمد مندور كان له بالمكيال نفسه الذي استخدمه في نقد شوقي، فأخذه بجريرة تفكك القصيدة وضياع وحدتها العضوية.
ولعل عبد الرحمن شكري أكثر زملائه تطبيقا للمبادئ الجديدة.
لقد سعى الديوانيون إلى تحديث الشعر العربي بالدعوة إلى التعبير عن الوجدان الفردي بقوة، وبالسعي إلى تأصيل مفهوم جديد للشعر العربي متأثرًا بالمفهوم الرومانسي الغربي، وبتطوير عدد من الأدوات الشعرية تطويراً محدودًا، و بإثارة مناقشات نقدية مثمرة في وقت لم يكن فيه الشعراء والنقاد الآخرون يهتمون بشيء من هذا القبيل.
[1] انظر حسين المرصفي الوسيلة الأدبية 2، 475 وما بعد. مطبعة المدارس الملكية القاهرة 1292هـ
[2] الدكتور شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر 46 دار المعارف بمصر 1966.
[3] الدكتور محمد مندور. محاضرات عن خليل مطران 11 مطبعة دار ا الهناء بمصر 1954.
[4] خليل مطران. ديوان الخليل 9 مطبعة الهلال بمصر 1949.
[5] ديوان عـبد الرحمن شكري 4، 288.دار المعارف بالإسكندرية 1960 جمع وتحقيق نقولا يوسف.
[6] الديوان1، 20.
[7] مطالعات في الكتب والحياة 280 القاهرة1924.
[8] انظر فصول من النقد عند العقاد 306.
[9] الشعر المصري بعد شوقي 1/54مكتبة الأنجلو بلا تاريخ.
[10] انظر محمد عبد الهادي محمود مقدمة لدراسة العقادْ القاهرة 1975. والكتاب بأكمله يبحث في مصادر آراء- العقاد في الكتابات الرومانسية الإنكليزية.
فإذا عبرنا إلى شاطئ العصر الحديث، فإن أول ما يستوقفنا هو أن العصر بأكمله قد وسم بالحداثة، وأن النقاد ومؤرخي الأدب مجمعون على تسميته بالعصر الحديث في الأدب أيضا. وأنه يبدأ- في عرفهم- بمطلع القرن التاسع عشر الميلادي. ولا بد- والأمر كذلك- من وقفة مستأنية، ولتكن وقفة في أرض مصر.
ففي بداية هذا العصر بدت بوادر التغير في الحياة الراكدة، ورحل جنود الحملة الفرنسية وعلماؤها من مصر، بعد أن هزوا المجتمع المصري من أعماقه. واستطاع محمد على باشا بعد سنوات قليلة أن يبدأ نهضة واسعة، ظهرت آثارها في توسعه العسكري، والحركة العمرانية، والبعثات الدراسية، وتشجيع الترجمة والطباعة، ثم تابع النهضة ابنه إسماعيل- الذي خلف عباساَ وسعيداً-. وكان هذا الحاكم مفتوناً بمظاهر الحياة الأوربية، فعمل على نقلها إلى مصر، وصرف في سبيل ذلك أموالاً طائلة، وفي الوقت نفسه، أخرجت المطابع عدداً من دواوين الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين، وأصبح في مقدور المثقفين أن يقفوا على عيون الشعر العربي، كما نشرت أمهات كتب التراث ككتب الجاحظ وابن المقفع وابن العميد وابن خلدون غيرهم. وبدأ النثر يتخلص من قيود السجع والتكلف، في كتابات رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم من كتاب العصر، فكان أسبق من الشعر إلى التحرر.
وأما الشعر فكان في حالة من السقم تقارب الموت. وكانت تمثله نماذج هزيلة، ليس فيها إحساس صادق، ولا تعبير فني ناضج، وتغطى ركاكتها ،في كثير من الأحيان، بألوان من البديع المصطنع تبدو مثل زركشة على كفن، وتعبر بصدق عن الحياة الراكدة في أواخر العهد العثماني.
وقد حاول بعض الشعراء- أمثال: محمود صفوت الساعاتي، وعلي أبي النصر، وعبد الله فكري، وعائشة التيمورية، أن يتحرروا من الأسلوب المتخلف، ولكنهم لم يبتعدوا عنه كثيرا، وكان مقدورا للشعر أن ينتظر ظهور الشاعر العبقري، الذي يتمثل ما تنتجه المطابع من الموروث الشعري الأصيل، ويرتقي إلى درجة تقترب من فحوله. وكان الشاعر هو محمود سامي البارودي.
ويعدّ النقاد ومؤرخو الأدب شعر البارودي بداية الشعر الحديث ويخصونه باصطلاح: شعر الإحياء؛ لأنه باكورة الحداثة.
فما الحداثة في هذا الشعر؟ وما موقف النقاد من حداثته؟
يذكـر الذين كتبوا عن البارود أنه انكب على دراسة التراث الشرقي، وأن شاعريته تفتحت بعيداً عن الشعر السقيم الذي كان يعاصره، وأن قصائده الأولى كانت معارضات لقصائد أبي تمام والبحتري- والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي . فيكون بذلك أول شاعر في العصر الحديث يدخل ساحة الشعر بديباجة عربية أصيلة.
ولو نظرنا في ديوان البارودي، لوجدنا أنه لم يأت بجديد، لا في موضوعات الشعر، ولا في شكله. بل إنه لم يخرج عن موضوعات عصره التقليدية. وشعره موزع بين المديح والهجاء والفخر والغزل ورياضة القافية، إضافة إلى لون، وجداني ساقته أحداث حياته.
ولكنه جاء بجديد إذا قسنا شعره بشعر معاصريه، جديده في الديباجة والأسلوبن وترك التكلف والبهرجة، فهو بهذا المقياس- ((حديث)) بين، شعراء يعيشون على القيم الفنية التي سادت في عصور الضعف والانحدار، وشعراء يحاولون التخلص منها، ولكنهم لا يحلقون، وهو بذلك رائد الحداثة، ريادته في العودة إلى التراث الشعري الأصيل، ومخالفة الذوق الأدبي الشائع في عصره. وهي مخالفة تجاوز السقيم إلى السليم.
إن الحداثة في شعر البارودي لا تحمل أي جديد بالمعنى اللغوي للجديد (أي الذي لم يكن موجوداً من قبل)، ولكنها تحمل جديداً بالنسبة للعصر الذي كان فيه، للبيئة الشعرية المحيطة به، وجديده أسلوب عربي كان مدفونا في الكتب، بعيداً عن الواقع الشعري، وليس فيه أي لقاء مع أية ثقافة غير عربية، ولا ردة فعل لثقافة أجنبية وافدة، فالثقافة الوافدة آنئذ قليلة الشأن. وقد كانت حداثته- أو عودته إلى التراث الشعري الناصع- أنقع للشعر العربي من أية صورة أخرى يمكن أن يأتي بها.
ومن المفيد أن نذكر أن النقاد المعاصرين للبارودي لم يهتموا بجديده، ولم يستخدموا اصطلاح ((الحداثة)) في وصف شعره، ولكن بعضهم- وفي مقدمتهم الشيخ حسين المرصفي-[1] أعجبوا بقوة شعره، وقارنوه بالشعر العباسي، واستخدموا المقاييس البلاغية القديمة في إظهار حسنه. وكان أفضل نقد لشعره يقوم على الموازنة بين إحدى قصائده وإحدى قصائد أعلام الشعر العباسي. وطبيعي ألا نتوقع من هذا النقد أن يقدم أي مفهوم أو تطوير لمفهوم الحداثة.
تحديث خلفاء البارودي ((المحافظين))
لم يكن لاتجاه البارودي صدى واسع في عصره، غير أنه آتى أكله في الجيل التالي، عندما نهض به شوقي ومطران وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وغيرهم. وقد عكف هؤلاء على قراءة شعره، إضافة إلى الشعر العباسي الذي أصبح في متناول أيديهم، وتأثروا بنماذجه المثلى، ويدل على ذلك معارضتهم الشعرية الكثيرة- وما زالوا يتزودون من عيون الشعر حتى استقامت لهم أساليبهم المتأثرة بها، فاستطاعوا أن يقيموا نهضة شعرية حقيقية، بعيدة كل البعد عن شعر التكلف والانحطاط، واستطاعت نهضتهم أن تؤثر في شعراء الوطن العربي، وأن تنهي آثار التخلف والانحطاط. وقد سماهم الجيل الذي خلفهم ((المحافظين))؛ لأنهم ترسموا خطا البارودي في المحافظة على جزالة الأسلوب العربي القديم ورصانته. وهم بلا شك محافظون في حدود هذا المعنى، ومحافظون أيضا؛ لأنهم لم يتخطوا حدود الثقافة العربية والقيم الشعرية الأصيلة إلا خطوات قليلة، وقد كانت الفترة التي عاشوها تتطلب ذلك.
وقد ناقش الدكتور شوقي ضيف محافظتهم، وحررها من شبهة الجمود والتخلف فقال: ولكنهم ليسوا محافظين بالمعنى السيئ للمحافظة، حيث يكون الشاعر نسخة مكررة لمن سبقه، أو يكون طبق الأصول التي يطلع عليها دون حذف أو تغيير، فتلك مرتبة عقيمة زهد فيها هؤلاء الشعراء وانصرفوا بقدر ما وسعتهم جهودهم، وسعوا لتكوين شخصياتهم الشعرية المستقلة، وفرضوا ثقافتهم وقضايا عصرهم على شعرهم، ولاءموا ملائمة جيدة بين القديم والجديد، بين الأسلوب العربي في جزالته ورصانته وروح العصر، ووجهوا الأذواق الأدبية إلى الوضع الذي يمكن أن نتدرج إليه بعد البارودي [2].
لقد كان شوقي وحافظ وصبري.. مجددين، بالمعنى الضيق للتجديد، وذلك في أول عهدهم، وبالتحديد في العقد الأول من القرن العشرين؛ إذ جاءوا بصوت جديد في الشعر العربي موضوعاً وأسلوباً، ولم تكن أصواتهم مجرد أصداء لصوت البارودي، فإن أي قارئ لشعرهم يحس أثر البارودي فيه، ويحس أيضاً أنهم أصوات متميزة تختلف عن البارودي في يسر الأسلوب، وتخلصه من الاستعمالات القاموسية البعيدة عن العصر، وتختلف في الموضوعات الحية التي تتصل بالحياة العامة في عصرهم، وقد كانت لديهم طاقات شعرية ضخمة، تملك ناصية اللغة وخصوبة البيان، وأسرار النغم الموسيقي، وعذوبة الأداء، فترددت أنغامهم في أرجاء الوطن العربي كله.
على أن شوطهم في التجديد كان قصيرا، إذ وقفوا عند الخطوات القليلة التي خطوها بعد البارودي، وأخذ شعرهم يكرر نفسه ولا يأت بجديد إلا في عناوين القصائد بينما الأفكار متقاربة، ولا أكاد أستثني بهذا الحكم أحدا من المحافظين، اللهم إلا نبضات التجديد في مسرحيات شوقي الشعرية، وبعض جوانب الحداثة في شعر مطران. وهذا الأخير يطبّل له بعض الدارسين، ويعده مظهرا للحداثة يهب القرن العشرين، وإمام الحركات المجددة التالية ولا بأس من التريث عنده للتحقق من هذه الدعوى.
فالدكتور محمد مندور يرى أنه رائد الحداثة والتجديد في الشعر العربي، ويقول عنه: ((إن الإجماع يكاد ينعقد على أن خليل مطران، يعتبر رائدا للمدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر، حتى ليكاد يختط طريقاً يشبه الطريق الذي أخطته في العصر العباسي بمدرسة البديع- وعلى رأسها أبو تمام- في مواجهة مدرسة عمود الشعر- وعلى رأسها أبو عبادة البحتري-؛ وذلك عندما يقارن النقاد بين مدرسة البارودي وأحمد شوقي وحافظ وغيرهم ممن ساروا على عمود الشعر العربي والمدرسة الحديثة التي تنتسب إلى مطران، وتمتد في جماعة أبولو خلال أحمد زكي أبو شادي و إبراهيم ناجي ومن ساروا على دربهما من الشعراء الناشئين في مصر وغيرها من البلاد العربية [3].
ويذهب أبعد من ذلك فيشبهه بالشاعر الفرنسي أندريه شينيه، الذي قاد الحركة الكلاسيكية الجديدة قبل الثورة الفرنسية، وهي الحركة التي جمعت بين الصياغة اللغوية الفصيحة والأفكار الجديدة المعاصرة.
وفي ظني أن مطران كان واحدا من المجددين: وليس ((رائدا للمدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر)) وأنه دون مرتبة الريادة، سواء في شعره، أو في تأثيره فيمن بعده.
وعندما نرجع إلى ديوانه نحسّ أنه أكثر شعراء جيله تأثرا بالثقافة الفرنسية، فقد ترجم قصائد كثيرة من شعرها، وناقشها، وعارضها وتأثر بها، وتنبه إلى بعض القيم الفنية في الشعر الفرنسي، ودعا الشعراء العرب إلى الأخذ بها، واهتم بوحدة القصيدة ودعا إليها، وإلى عدد من القيم الشعرية التي لم تكن سائدة بين معاصريه، فقال في مقدمة ديوانه: ((هذا شعر ناظمه لا تحمله ضرورات الوزن أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الصحيح، ولا ينظر قائله إلى جمالا البيت المفرد ولو أنكر جاره وشاتم أخاه ودابر المطلع وقاطع المقطع وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه، إلى جمال القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصور وغرابة الموضوع ومطابقة كل ذلك للحقيقة وشفوفه عن الشعور الحرّ وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر)) [4].
ويبدو في تقويمه هذا أن الشعر في مفهومه تعبير نفسي تتجلى فيه الوحدة الفنية الموضوعية، وأن قواعد الحزن والقافية إنما هي لخدمة معاني الشاعر. وإشارته هذه إلى وحدة القصيدة هي- فيما أعرف- أول إشارة إلى قضية وحدة القصيدة في العصر الحديث، وقد طبقها في بعض قصائده الشعرية، ولا سيما في القصائد القصصية.
على أنه لم يستطع أن يحقق- في معظم شعره- ما نادى به في مقدمة ديوانه فصياغته تكاد تداني الصياغة التقليدية- ولعل مقدمته النثرية للديوان كما يرى القارئ توحي بذلك أيضاً- وهي متأثرة بالأساليب العربية القديمة إلى حد بعيد، مع تفاوت ملحوظ في الجزالة، كما أن موضوعات شعره تترواح بين بعض الموضوعات الوجدانية- كالتأمل والغزل والشكوى... وبين الموضوعات التقليدية العتيقة، كالمدائح والمراثي وشعر المناسبات.
وأما تأثيره فيمن بعده، وخصوصاً شعراء أبولو الذين ذكرهم مندور- فهو ضئيل لا يرقى به إلى الريادة والإمامة، ذلك أنه لم ينجح في إشاعة ما دعا إليه بين الشعراء، ولم تتكون له مدرسة شعرية على نحو ما تكون للبارودي ولشوقي من بعده، وشعراء أبولو كانوا في معظمهم على قدر وافر من الثقافة الإنجليزية، وقد تأثروا بمدارسها الشعرية مباشرة، وتأثر بعضهم بالديوانيين الثلاثة- العقاد وشكري والمازني-. ولعل الديوانيين هم أقرب من قرأ شعر خليل مطران، والتقوا معه في عدد من مفهومات الشعر. والمعروف أن مصادر مطران الفرنسية تلتقي مع الرومانسية الإنجليزية التي تأثر بها الديوانييون- وتوجه الشاعر نحو ذاتية التعبير والاهتمام بالخيال والتخلص من القيم الفنية الكلاسيكية.
تحديث الديوانين:
يطلق الدارسون اصطلاح الديوانيين على الشعراء النقاد الثلاثة: عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، وهؤلاء الثلاثة هم الذين تركوا بصمات عميقة في تطوير عدد من عناصر الشعر العربي الحديث، وجاءوا بخيوط كثيرة من الحداثة تنظيراً وتطبيقاً.
وكان أسبقهم إلى التحديث عبد الرحمن شكري، الذي نشر دواوينه الشعرية قبل زميليه، وضمنها عددا من آرائه الجديدة، ثم شاركها في إصدار بعض المقالات النقدية التي تدعو إلى التحديث وتنتقد معظم القيم الشعرية في شعر المحافظين، ثم انفصل عنهما، واقتصر على كتابة الشعر وعدد قليل من المقالات، على حين أصدر العقاد والمازني كتاب ((الديوان)) الذي ضم خلاصة القيم الحديثة التي يدعون إليها، وأحدث ضجة كبيرة. وبعد أقل من عقد من الزمن خفت قوة الاتجاه، إذ هدأت حدة المازني في النقد، وسكت صوته في الشعر، وغاب عبد الرحمن شكري عن الأنظار، لا يظهر من شعره إلا قصائد قليلة تنشر على فترات متباعدة، وظل العقاد وحده يصدر دواوينه ويتابع حملاته النقدية العنيفة.
وقد كان الأعلام الثلاثة على قدر كبير من الثقافة الغربية، ولاسيما الإنكليزية تعمقوا في دراسة آدابها، وأخذوا من شعرها ونقدها شيئا كثيراً، فكانوا بحق مدرسة جديدة في الشعر العربي ونقده، وصفها العقاد نفسه بقوله:
مدرسة لا شبه بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنكليزية، ولم تقتصر قراءاتها على أطراف من الأدب الفرنسي- كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر- وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنكليز، لم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلها استفادت من النقد الإنكليزي الحديث فوق فائدتها من الشعر وفنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت إن (هازلت) هو إمام هذه المدرسة كلها في النقد؛ لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة، ومواضع المقارنة والاستشهاد.
وقد استفاد الأعلام الثلاثة من ثقافاتهم الواسعة، وثاروا بتأثيرها- على عدد من القيم السائدة، في الشعر الذي يكتبه المحافظون، وحاولوا زحزحة الأصول التقليدية التي يتبعونها، ودعوا إلى مفهومات جديدة للشعر وعناصره، وجعلوا دعوتهم معلم الحدأة، والأخذ بها تحديثاً للشعر. ويمكن إجمال أهم معالم الحداثة التي دعوا إليها فيما يلي:
أولاً تطوير مفهوم الشعر: كان الشعر في مفهوم المحافظين صناعة متقنة، تقوم على مجموعة من القواعد والقوانين، يحذقها أصحاب التراث الموضوعيون من نقاد ولغويين وبلاغيين، والشاعر هو القائل الفصيح أولاً. وقد رفض الديوانيون هذا المفهوم وقدموا مفهوماً جديداً، يكون الشعر فيه إبداعا يعبر عن ذات الشاعر، ويصور عالمه الداخلي بكافة مناحيه، وطاقاته النفسية وملكاته الإنسانية، ويصدر عن الشعور، ويضطرب بالعاطفة؛ يقول عبد الرحمن شكري عن الشعر: ((هو كلمات العواطف والخيال والذوق السليم، فأصوله ثلاثة متزوجة، فمن كـان ضئيل الخيال أتى شعره قليل الشأن، ومن كان ضعيف العواطف أتى شعره ميتاً لا حياة فيه؛ فإن حياة الشعر في الإبانة عن حركات تلك العواطف، وقوته مستخرجة من قوتها، وجلاله من جلالها، ومن كان سقيم الذوق أتى شعره كالجنين ناقص الخلقة)) [5].
وهناك تعريفات مشابهة لتعريف عبد الرحمن شكري أوردها العقاد والمازني في ثناب انقدهم، تؤكد التفاف الأعلام الثلاثة حوله المفهوم ذاته.
ثانياً: تطوير مضمون الشعر: اهتم الشعراء المحافظون بالقضايا العامة أكثر من اهتمامهم بالوجدان الفردي، فلما جاء الديوانيون عملوا- بتأثير قوي من الرومانسية الإنكليزية التي تأثروا بها- على توجيه الشعر نحو الذات، وطلبوا من الشاعر أن يهتم باستبطان وجدانه قبل كل شـيء، وأن يعبر عن إحساساته بحرية تامة.
وعلى الرغم من أن العقاد لم يمانع في أن يطرق الشاعر موضوعات الحياة اليومية في البيت أو الطريق أو الدكان، فإنه اهتم اهتمام عظيماً بالعالم الداخلي للشاعر، وجعل التعبير الصادق عن هذا العالم الخاص مقياس الجودة المثلى للشعر فقال: ((إن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيا ووجداناً تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة ا لجوهرية)).
وقرر المازني أن الشعر مرآة لنفس الشاعر، فيه روحه وإحساسه وخواطره ومظاهر نفسه، سواء أكانت جليلة أم دقيقة، شريفة أم وضيعة.
وذهب عبد الرحمن شكري المذهب نفسه، فجعل الشعر لغة العاطفة ومحركها، وهكذا وجّه الديوانيون الشعر وجهة وجدانية، تهتم بالعاطفة قبل كل شيء وكان توجيههم هذا جديدا على الشعر العربي ونقده.
ثالثاً: تطوير في الشكل:
أ- الدعوة إلى وحدة عضوية للقصيدة، بحيث تصبح- كما يقول العقاد- عملا فنياً تاماً يكمل فيه تصور خاطر أو خواطر متجانسة. بحيث إذا اختلف الوضع أو تخيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها، فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يغني عنه غيره في موضعه)).
غير أن النقاد أخذوا على العقاد أنه لم يجاوز- في دعوته للوحدة العضوية- وحدة الموضوع، وأنه لم يحقق في شعره أكثر من ذلك.
ب- الدعوة إلى تطوير الصورة الشعرية: استفاد الديوانيون من التطوير الكبير الذي أحدثه الرومانسيون الغربيون، في مفهوم الصورة الشعرية واستعمالاتها؛ فاهتموا بها اهتماما كبيرا، وعـدوها عنصرا أصيلا في البنـاء الشعري، تنقل الأحـاسيس وتهتم باللباب والجوهر... في العلاقة بين الأشياء، لا بالتشابه الخارجي، وهاجموا الصورة التقليدية التي يعتمد عليها الشعراء المحافظون واتهموها بالافتعال والمبالغة، والنمطية والتصميم، والحسية الحرفية الشكلية. يقول العقاد في هجومه العنيف على شوقـي وأسلوبه في التصوير: إذا كان كذلك من التشبيه أن تذكر شيئاً أحمر، ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الإحمرار فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء، بدل شـيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس)) [6].
جـ- الدعوة إلى التحرر من القافية: كان عبد الرحمن شكري من أوائل الشعراء الذين حاولوا التخلص من القافية الموحدة، وقد كتب عدة قصائد لم يراع فيها وحدة الروي، كما أن العقاد تبنى الدعوة لترك القافية، وعدها إحدى معوقات الشعر العربي عن التطور؛ قال: ليس بين الشعر العربي وبين التفرد والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول، بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية، وشعراء الوصف، وشعراء التمثيل، ولا تطول نقرة الأذن من هذه القوافي، ولاسيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان)) [7].
ولكن العقاد تراجع عن رأيه هذا بعد ثلاثين سنة، وقرر أن انتظام القافية متعة موسيقية تخف لها الآذان، وانقطاع القافية بين بيت وبيت شذوذ يحيد بالسمع عن طريقه الذي اطرد عليه. ودعا إلى حلٍّ وسط يسمح بتنويع القافية في القصيدة دون أن يلغيها [8].
تلك هي أهم معالم الحداثة في حركة الديوانيين، وقد عزا النقاد هذه المعالم إلى القيم الرومانسية الغربية، والإنجليزية بالذات- التي أثرت في الديوانيين، فيرى الدكتور محمد مندور (أن المنهج الشعري الذي اختارته هذه المدرسة ودعت إليه هو نفس المنهج الذي صدر عنه جامع ((الكنز الذهبي)) في اختيار ما اختار من الشعر الغنائي الإنكليزي) [9]. ويذهب الدكتور محمود الربيعي إلى أنهم نقلوا المبادئ التي دعوا إليها بدقة عن النقد الإنكليزي، في حين قام دارس آخر بالبحث عن مصادر آراء العقاد في كتابات الشعراء والنقاد الرومانسيين في أوربا وأمريكا، وعقد مقارنات طريفة وقيمة تؤكد هذا النقل [10].
ولم ينكر الديوانيون تأثرهم بالرومانسيين الغربيين شعراء ونقادا- بل أعلنوا على الأشهاد، أنهم تأثروا بهم واستفادوا منهم، وأخذوا أفضل ما عندهم، دون أن يحصروا أنفسهم في آثارهم. وقد مر بنا قبل قليل تصريح العقاد عن تأثره وزميليه بالشعر الإنجليزي وغيره، ولكنه دفع بقوة شبهة التقليد، وقرر أنهم كانوا في موقع الاختيار لا التبعية.
ولا شك أن الديوانيين جاؤوا الشعر العربي بعدد من القيم الفنية الأصيلة، استمدوا معظمها من الشعر والنقد العربي بعامة، والإنكليزي بل والرومانسي الإنكليزي بخاصة، وأفادوه في عدة جوانب، منها: إعادته إلى التعبير عن الوجدان الفردي في إخلاص وصدق، وقد عاش الشعر العربي من قبل فترات على هذه الشاكلة، في شعر بعض الشعراء الجاهليين وفي قصائد الغزليين والصوفيين وعدد من الشعراء أصحاب الاتجاهات الفردية؛ كابن الرومي وأبي العلاء وأبي فراس والمتنبي في غير مدائحه، ولا يكاد عصر من العصور يخلو من هذا الشعر. لذلك فإن دعوة الديوانيين إلى هذا اللون من الشعر ليست جديدة على الشعر العربي في تاريخه الطويل، ولكنها ليست دعوة نابعة من صور الشعر الوجداني في تاريخ الشعر العربي... ولا يمكن إلا أن تكون متأثرة إلى حد كبير بالاتجاه الرومانسي الغربي، كما أنها تحمل عناصر مغايرة لما كان سائدا ً بين شعر المحافظين....
ولعلنا بهذا التفسير نجد إجابة مقنعة للتساؤل الذي يثور في ذهن من يقرأ آثار الديوانيين: لماذا تفوقت دعوتهم النظرية على تطبيقهم العملي؟.
ولا يخفى على القارئ أن شعر الديوانيين- ولاسيما العقاد ثم المازني- لا يحقق أحياناً المبادئ التي دعوا إليها، ولا يخلو من المعاني والموضوعات والمشكلات التي هاجموها بشدة. والطريف أن العقاد نفسه وقع مرة في الفخ الذي أوقع فيه أمير الشعراء أحمد شوقي من قبل، وأن الدكتور محمد مندور كان له بالمكيال نفسه الذي استخدمه في نقد شوقي، فأخذه بجريرة تفكك القصيدة وضياع وحدتها العضوية.
ولعل عبد الرحمن شكري أكثر زملائه تطبيقا للمبادئ الجديدة.
لقد سعى الديوانيون إلى تحديث الشعر العربي بالدعوة إلى التعبير عن الوجدان الفردي بقوة، وبالسعي إلى تأصيل مفهوم جديد للشعر العربي متأثرًا بالمفهوم الرومانسي الغربي، وبتطوير عدد من الأدوات الشعرية تطويراً محدودًا، و بإثارة مناقشات نقدية مثمرة في وقت لم يكن فيه الشعراء والنقاد الآخرون يهتمون بشيء من هذا القبيل.
[1] انظر حسين المرصفي الوسيلة الأدبية 2، 475 وما بعد. مطبعة المدارس الملكية القاهرة 1292هـ
[2] الدكتور شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر 46 دار المعارف بمصر 1966.
[3] الدكتور محمد مندور. محاضرات عن خليل مطران 11 مطبعة دار ا الهناء بمصر 1954.
[4] خليل مطران. ديوان الخليل 9 مطبعة الهلال بمصر 1949.
[5] ديوان عـبد الرحمن شكري 4، 288.دار المعارف بالإسكندرية 1960 جمع وتحقيق نقولا يوسف.
[6] الديوان1، 20.
[7] مطالعات في الكتب والحياة 280 القاهرة1924.
[8] انظر فصول من النقد عند العقاد 306.
[9] الشعر المصري بعد شوقي 1/54مكتبة الأنجلو بلا تاريخ.
[10] انظر محمد عبد الهادي محمود مقدمة لدراسة العقادْ القاهرة 1975. والكتاب بأكمله يبحث في مصادر آراء- العقاد في الكتابات الرومانسية الإنكليزية.