الطريقة:جدلية الدرس: الطبيعة والثقافة.
الإشكالية: هل الثقافة ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة أم هي ما يقابلها به؟.
نشأ الفرد في أحضان الطبيعة وخضع لمؤثراتها وقوانين التطور الطبيعي وتكيف
مع شتى المؤثرات الطبيعية مثل بقية الكائنات الحية ولأن الوجود الإنساني
قائم في أساسه على الجدلية بين الثقافة والطبيعة, والإنسان بحكم طبيعته
مطالب بتحقيق وجوده من خلال تأثيره على محيطه وهكذا عندما يقذف بالفرد في
الجماعة فانه يأخذ في اكتساب ألوان من التصرفات المختلفة بحيث أنه يتصل
بالثقافة وتراثها ومن هنا يتبادر إلى أذهاننا الإشكال التالي:هل هذا
الاتصال هو عبارة عن أشياء يضيفها الإنسان إلى الطبيعة أم يقابلها به ؟
يرى أنصار الاتجاه الذي ينادي بالإضافة أن الطبيعة ليست الحياة البيولوجية
ولا الفيزيولوجية التي يولد عليها الفرد فحسب بل أيضا البيئة الفيزيائية
التي يستقر فيها المجتمع، إن الثقافة متعددة المفهوم, فهي في اللغة
الفرنسية تعني العناية بالأرض أي بفلاحتها وزراعتها ويفهم من هذا أن الأرض
من غير ما يضاف إليها من نشاط إنساني لا تنتج شيئا يستجيب لمطالب الإنسان،
فالثقافة إذا هي ما يضاف إلى الطبيعة الجغرافية من نباتات أو أنها تتمثل
في منتجات الأرض, وإذا نظرنا نظرة الانثروبلوجيين قلنا بان الثقافة ما
تنطوي عليه من لغة وتقنية ومؤسسات اجتماعية كثيرة تبقى مدة طويلة بعد موت
الأفراد الذين أنتجوها وفي هذا السياق يقول جوزيف فغتر أن الأفراد يذهبون
ويجيئون ولكن الثقافة تبقى مستقرة) وكأن الثقافة كل مستقل بذاته له كيانه
وقيمته باعتبار أنها (صفة الكائنات الإنسانية مهما كان المكان الذي يحيون
فيه أو أسلوبهم في الحياة ) على حد تعبير هوسكو فيتز، فالفرد زاد على
البقعة الجغرافية أشياء يسميها بعضهم بالبيـــئة الاصطناعية وهي التي عملت
على تخليده انه خالد في الطبيعة بانتاجاته الفنية ومؤلفاته الأدبية
والعلمية ومعتقداته الدينية، إلا أن الثقافة تفقد معناها بانعدام الجنس
البشري ونجد مارغريت مد إحدى الأنثروبيولوجيات في أمريكا ترى أن الثقافة
عبارة عن (استجابة الإنسان لإشباع حاجاته الأساسية فهي عبارة عن الوسائل
التي يلجأ إليها الإنسان ليعيش معيشة مريحة في العالم) إذا فالثقافة تسمح
للمكتسب بالتلاؤم مع الوسط الطبيعي وتبقى جزءا أساسيا من الحياة
الإنسانية.
إن هذا الرأي رغم كل الحجج والأدلة لم يصمد للنقد لأن الواقع يشهد أن
الإنسان لم يترك زمام مصيره للطبيعة بل أراد أن تكون له اليد الطولى في
تقرير مصيره واستطاع بذلك الخروج من دور التاريخ الطبيعي إلى دور التاريخ
الحضاري.
وعلى عكس الرأي السابق نجد أنصار الاتجاه المنادي بالتضاد بحيث يرون أن
الإنسان ما كان ليوجد ذلك الصرح الثقافي إلا من اجل التكيف مع البقعة
الجغرافية ومن مظاهر
التكيف الدفاع ضد العوامل الفيزيائية القاسية من برودة وحرارة وجبال وبحار, وكذلك خرق ستار الألغاز الطبيعية وتجاوزها.
إن تطور العلوم وظهور الأديان أعطت السيطرة للإنسان فتطور الفرد ثقافيا
واجتماعيا جعله ينفصل شيئا فشيئا من آثار البيئة فهو يحاول دائما ابتداع
الكثير من الوسائل التي تمكنه من مغالبة سيطرتها ضمانا لبقائه واستقرارا
لحياته وقد استطاعت المجتمعات أن تقهر الطبيعة وتذلل صعوباتها فشقت
الأنفاق وجففت البحيرات وعمرت الصحاري وغيرت مجاري الأنهار, وكذلك نجد أن
الثقافة تغير الكثير من ميولنا الفطرية وتعدل اتجاهاتنا حتى تتمشى في وفاق
مع المجتمع ذلك لان معظم الصفات الطبيعية توجد عند الطفل في شكل قدرات
كامنة والبيئة الثقافية هي التي تنميها وتغذيها وقد أمكن لحد كبير التدخل
في عامل الوراثة وإخضاعه للرقابة الاجتماعية بفضل ما توفره الثقافة من
شروط وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الثقافة تقف في وجه الخصائص
البيولوجية الفيزيولوجية كمراقب صارم كأنها تنافس الطبيعة ويجدر بنا إذا
أن نقابل الثقافة بالطبيعة وذلك من خلال المنجزات الايجابية التي حققها
الإنسان فقد كان اقل من الطبيعة فأصبح أعظم منها, لا يعنيه غضبها ولا
رضاها لقد أنقذه الدين من الخوف والعجز العقلي كما أن الفن ساعده على
الانفلات من الواقع بفضل الخيال من اجل الترويج على النفس وتسليتها.
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد لأنه لا يمكن نفي الرأي الأول بالإضافة
إلى ذلك نجد آن العلاقة تارة في صورة إضافة, وتارة أخرى في صورة مقاومة.
انه من العسير علينا الوقوف على الحد الفاصل بين الثقافة والطبيعة
فالتباين الذي يخيل لنا انه موجود بينهما ليس بالتباين المطلق لأن
القوانين التي تسيطر على نمو الحياة الطبيعية هي نفسها التي تسيطر على
تكوين الحياة الثقافية.
وخلاصة القول يمكننا أن نقول أن الثقافة تبدو علاقتها بالطبيعة تارة في
صورة إضافة وتارة أخرى في صورة تضاد وصراع غير انه لا يجب علينا أن نقابل
الثقافة بالطبيعة مقابلة مطلقة لأنهما كل متكامل ومتشابك يستعصي التمييز
فيه بين الفطري من جهة والمكتسب من جهة أخرى.
قال البروفيسور شاربل عميد كلية الحقوق في جامعة فيينا:<<إن البشرية
لتفخر بانتساب محمد إليها ذلك الأمي الذي استطاع أن يأتي بشريعة سنكون نحن
الأوربيون اسعد ما نكون, لو وصلنا إلى قمتها بعد ألفي عام >>
يقول مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة):<< الثقافة هي ذلك الدم
في جسم المجتمع يغذي حضارته و يحمل أفكاره (الصفوة)كما يحمل
أفكار(العامة)و كل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات
المتشابهة والاتجاهات الموحدة والأذواق المتناسبة>>.
الطريقة:جدلية الدرس:العواطف والأهواء
الإشكال:هل مصدر العاطفة الذهن أم الجسم ؟
تعد العاطفة هي تلك الحالة الانفعالية المعقدة الثابتة والمستديمة وغير
العنيفة على خلاف الهيجان وهي أنواع كثيرة, وهي كذلك استعداد انفعالي
مكتسب ولهذا تتميز عن الميول الفطرية رغم أنها نبتت منها فهي تتأثر
بالعوامل الاجتماعية وتنمو وتقوى تحت تأثير التفكير والتأمل والتجارب
الانفعالية المختلفة ولأهمية هذا المبحث اختلف الفلاسفة لاختلاف مناهجهم
حول إعطاء مصدر حقيقي للعواطف بشتى أنواعها والتساؤل الذي يتبادر إلى
أذهاننا.هل يمكن إرجاع العاطفة إلى الذهن آو الجسد؟
يرى الذهنيون ومن بينهم هر برت أن مصدر العواطف هو الاتفاق والاختلاف بين
تصوراتنا وأفكارنا والعواطف بالنسبة إلى أفكارنا مثل الاتساقات بالنسبة
إلى الأصوات الموسيقية التي نؤلفها مثال ذلك أنني عندما أكون في حالة
انتظار صديق فإنني أتصور مجيئه وصدق حديثه فإذا وردت علي منه رسالة تؤكد
زيارته فان الفرحة ستغمرني أما إذا أنبأتني الرسالة بعدم قدومه فان هذه
الفكرة ستصطدم بالأفكار الأخرى التي كنت أغذيها في نفسي أتوقعها فيشملني
الحزن.
إلا أن هذه النظرية لم تصمد للنقد ذلك أنها تفسر عاطفة بعاطفة أخرى لا غير
لأن الانتظار الذي يثير السرور هو في الحقيقة رجاء إثارته رابطة الصداقة
التي تربطني بالصديق وليس الرجاء والصداقة مجرد فكرة بل هما عاطفتان قد
تولدتا أو تكفان عواطف أخرى وكل ما في الأمر أن النظرية تفسر إلى حد ما
العواطف الفكرية التي تنشأ على الاتفاق أو الاختلاف بين الأفكار هذا علاوة
على أن تهمل التغيرات العضوية التي تصحب ظهور العواطف مصاحبة متراوحة في
الشدة.
وعلى عكس الرأي السابق يرى أنصار النظرية الفيزيولوجية وعلى رأسها وليام
جيمس أن الاضطرابات العضوية التي تحدث للإنسان في حالة العاطفة خاصة
العاطفة الدينية وقد وسع ريبو هذه النظرية وعندئذ وقع الربط بين العاطفة
الدينية والقشعريرة التي يشعر بها المتدين كما استدلت هذه النظرية
بالاضطرابات العضوية التي تظهر على المتصوفين وقد جاء في القرآن الكريم
مصداقا لقوله تعالىمثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ) , وقال أحد
الشعراء العرب:
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر
كما أن العاطفة الخلقية في صورة استنكاف تصحبها تغيرات فيزيولولجية و
كثيرا ما تصحب العاطفة الجمالية حركات واضحة في الغناء و الرقص ومن العادة
أن يذكر بهذا الصدد ما حدث لـ مقبرانش من تسارع في حركة القلب بشكل عنيف
عندما كان يقرا كتاب(الإنسان لديكارت)مما جعله مرارا يترك قراءته للتنفس.
إن هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أن العاطفة مثل الهيجان لا تنفصل
عن الجسم ومهما كانت الاضطرابات العضوية مختلفة في الهيجان, والعاطفة من
حيث الدرجة فقط, فان هذا الجانب الفيزيولوجي يبقى دائما عاجزا عن تفسير
نوعية العواطف والمعاني الخاصة التي تكتسبها.
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين أنهما جزأتا العواطف الوجدانية لدى
الفرد بحيث طرحت العاطفة الإنسانية بشتى أنواعها, الأولى على النفس
والثانية على مستوى الجسم في حين عواطف الفرد مصدرها النفس والجسم معا
وبدون توفر هذين الشرطين يصبح لا معنى لعواطفنا وأهوائنا بدون أن ننسى
العوامل الاجتماعية.
وفي الأخير وكحوصلة لما سبق فان العاطفة ليست في الجسد ولا في النفس,
وإنما في الإنسان كجزء لا يتجزأ,وان كل المحاولات الرامية لفصل الجسد عن
الروح أو العكس مآلها الفشل ذلك انه لا يمكننا أن نجد فردا بدون جسد له
عواطف سامية أو العكس,فالإنسان ليس ملكا كما انه ليس بشيطان.
الطريقة:جدلية الدرس:الهيجان2
الإشكال:هل للانفعال الهيجاني دور ايجابي في سلوك الفرد أم أنه مجرد سلوك عشوائي؟
لا ينكر أحد أن الهيجان الفعال حاد يصيب الفرد في سلوكه وحياته النفسية و
وظيفته العضوية هذا الانفعال أثار جدلا واسعا بين جمهور الفلاسفة والعلماء
حول جوهر حقيقته، وبما أنه سلوك انفعالي ينقل الفرد من حالته الطبيعية إلى
حالة اضطراب فهل هذه الأخيرة تعتبر حالة تلاؤم وتأقلم مع الوضع الجديد
وبالتالي شيء إيجابي،أم أنه حالة من الفوضى واللاتأقلم وبالتالي حالة
عشوائية؟.
يرى أنصار الاتجاه الإيجابي – النظرية الغريزية – وعلى رأسهم جورج دوماس،
داروين، كانون، برغسون أن الهيجان ذو طابع إيجابي ذلك أن المصادمة
الحقيقية تعمل(من الناحية السيكولوجية)كمنشط بصورة عامة فيقوى النشاط
العقلي ويتسع الخيال و يشتد الانتباه وينل على المنفعل شيء من الإلهام
فيندفع إلى الابتكار ويتكيف بصورة عجيبة مع المشاكل الطارئة فانفعال
الغيرة بين العمال من شأنه أن يدفع إلى المنافسة في العمل والابتكار في
الإنتاج والغيرة أيضا بين الدول تدفع المناضل الملتهب حماسا إلى التضحية
بنفسه في سبيل السير بوطنه قدما نحو الرفاهية والازدهار وعلى هذا الأساس
تكون الهيجانات بمثابة القوة الخالقة على حد تعبير برغسون(إن العلماء
الذين يتخيلون الفروض المثمرة والأبطال والقديسين الذين يحددون المفاهيم
الأخلاقية لا يبدعون في حالة جمود الدم وإنما يبدعون في جو حماسي وتيار
نفسي ديناميكي تتلاطم فيه الأفكار وتتضارب)ونجد برادين الذي يرى أن
الهيجان ينشط الخيال والعقل مثلا الخوف يدفعنا إلى الحيطة والحذر وإيجاد
الوسائل لحماية النفس والغضب البسيط يدفع الإنسان إلى الثأر لكرامته
وتدبير أموره.
للهيجان أهمية كبرى في حفظ حياة الكائن الحي فهو يهيئ البدن للقيام بما
تتطلبه المواقف الانفعالية الطارئة من مجهود ونشاط يقول كانونإن زيادة
إنتاج الإدريانين في الدم مثلا أو ازدياد مقدار السكر يكسب الجسم مناعة
تنشط العضلات لمقاومة التعب وازدياد سرعة خفقان القلب يساعد في سرعة توزيع
الدم في جميع أجزاء البدن والأطراف على وجه الخصوص ليمكنها بما تحتاج إليه
من نشاط)و يفهم من هذا أن التغيرات الفيزيولوجية في حالة الانفعال أمر
ضروري و طبيعي لبقاء الجسم، وإذا كان الهيجان عنصرا ضروريا للنفس والبدن
فذلك لمواجهة الظروف الخارجية يقول داروين (إن الهيجان لا يهيئ الكائن
الحي لوضع داخلي فقط، إنه وسيلة للتلاؤم مع الظروف الموضوعية
المفاجئة)فالقط مثلا عندما يهتاج ينتصب شعره ويتقوس ظهره و تنكشف أظافره،
والحشرة تتشبه بلون المحيط الذي تكون فيه.
بالرغم من كل هذه الأدلة إلا أن النظرية لم تصمد للنقد ذلك أن الهيجان لا
يحقق دائما النتائج المتوقعة فقد لا يصلح للدفاع وحماية النفس و لا لحماية
القيم الأخلاقية التي تفترض رزانة وإقناعا بالحجة كذلك أن الهيجان لا يكفي
وحده لأنه يستدعي خبرة ودراية بالأمور أما من ناحية الجسم فهذا ليس صحيحا
دائما ذلك أن الحالات الطارئة يشكل فيها الاندفاع تهورا خطيرا.
وعلى عكس الرأي السابق ونظرا للاعتبارات السابقة الذكر فإن العديد من
المفكرين ورجال التربية يرون أن الهيجان سلوك فاشل فلو حللنا سلوكا
هيجانيا للاحظنا أن الهيجان يشل الفرد من الناحية النفسية الفيزيولوجية
ويفقده التلاؤم مع المواقف الطارئة فمن الناحية النفسية يتعطل الفكر عن
النشاط العادي ويصعب على الفكر أن يراقب ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، إن
الهيجان عاصفة تستبد الإنسان وتجرف كل ما تجده في طريقها فتهدد مقوماته
الشخصية، أما من الناحية الفيزيولوجية فالهيجان يحدث في بدن المهتاج عدة
تغيرات فيزيولولجية هامة تدل على عشوائية السلوك فمن الناحية الداخلية
تحدث تغيرات في الدورة الدموية وفي نشاط المعدة والأمعاء والغدد والعضلات
ومن بين العلماء الذين فسروا الهيجان تفسيرا سلبيا بيارجاني إذ يقول (إن
الهيجان سلوك أدنى من المستوى المطلوب إنه سلوك فاشل يتميز فيه المثير
بالمفاجأة والحدة والعضوية، هنا لا نملك القدرة على المواجهة فيسوء
التكيف)ومعنى هذا أن الإنسان ينتقل من حالته الطبيعية إلى حالة تجعله
فريسة للسلوك الشاذ، وقد تبين من خلال التجارب على الإنسان أن الهيجان
يؤثر في التيارات الكهربائية الدماغية المتولدة عن نشاط الملايين
من(النورنات)بحيث يحصل إبطاء في مفعول (ألفا)وظهور موجات بطيئة من
نوع(دلتا)وهذه الموجات تعود العلماء على مشاهدتها عند المرضى العقليين
والأطفال ومن الناحية الدينية نجد ديننا الإسلامي الحنيف يدعونا إلى عدم
الغضب وهذا ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم(لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب،
فإن الغضب يأكل الحسنات كما تأكل النار الهشيم).
رغم هذه السلبيات للهيجان إلا أنه لا يمكننا أن ننكر بعض الجوانب
الإيجابية التي تنتج عنه ومع هذا وذاك يبقى الهيجان سلوك قابل للتهذيب
والتعديل بواسطة التربية فكلما تفادى الفرد وترفع عن السلوكات الانفعالية
كان أكثر نجاحا.
إن عملية المد والجزر التي قام بها جمهور الفلاسفة لقيمة الهيجان لا يمكن
أن نحكم بمقتضاها على قيمة أثر الهيجان ومردوده في المجالات النفسية
والحيوية والاجتماعية والسبب في ذلك أن الناس ليسو متشابهين إطلاقا
فالكثير منهم لا يقوى على صناعة شيء من الأعمال السامية إلا بهزات عنيفة
من الهيجان في حين أن هناك أناس يتهيجون لأتفه المنبهات فيسقطون في الخمول
ويتوقفون عن السعي وبذلك فهو حالة طبيعية عند الفرد لا يمكن استئصالها.
وفي الأخير وإذا أردنا الخروج بحوصلة فإن الهيجان من الناحية السيكولوجية
ينزل بنا إلى ما دون الحياة الحيوانية ومن ناحية الوجود الإنساني يطلعنا
على حقيقتنا ففي الضعف قوة أو بمعنى أصح الهيجان فرصة تجعلنا نطل على معنى
الشخص ومنزلته في الوجود فبدون الإحساسات الوجدانية والانفعالية المختلفة
تكون حياتنا بمثابة الجماد الذي لا يحس.
الطريقة:جدلية. الدرس:الشخصية1.
الإشكال:يقال<إن الشخصية تكتسب>هل تعتبر هذا القول صحيحا؟
لما كان الإنسان ميالاً بالطبع إلى الحياة مع أمثاله فليس من الغريب أن
يكون سلوكه مشبعا بالمكتسبات الاجتماعية مثقلاً بخيرات السنين فهو يكتسب
اللغة والأخلاق والعلم و ينمي ملكاته العقلية وبالرغم من أنه وحيد في نوعه
وفرد يتميز بالتميز في شخصيته و المقصود بالشخصية هو باختصار الوحدة
الكلية والحركية المميزة لسلوك فرد ما شاعر بتميزه عن الغير ولكن السؤال
المطروح:هل الشعور بهذا التميز هو من معطيات الولادة أم أنه نتيجة تطور
تدريجي؟،أو بكلمة وجيزة هل الشخصية تكتسب؟.
ترى المدرسة الاجتماعية أن الإنسان عجينة في يد المجتمع يشكلها كيفما يشاء
فالفرد مرآة عاكسة للمجتمع وفي هذا يقول هربرتالطفل صفحة بيضاء يكتب عليها
المربي ما يشاء)،كذلك نجد الغزالي يقولالطفل كالعجين يستطيع المربي أن
يكونه كما يشاء)،والشخصية لا تنشأ أو تتشكل دفعة واحدة بل تنشأ بالتدرج
يقول ألبورت(لا يولد الطفل بشخصية كاملة بل يبدأ بتكوينها منذ
الولادة)،وأيضا يقول فالونإن الشعور بالذات ليس أمراً أوليا بل محصول تطور
بعيد لا تبدأ نتائجه بالظهور قبل السنة الثالثة) فالشخصية في تكوينها تمر
بمراحل تعد الأساس في تكوينها هي مرحلة اللاتمايز والشعور بالأنا.والإنسان
بطبعه اجتماعي كما يقول بن خلدونالناس على دين ملكوهم)،ودوركايم الذي
يقولإذا تكلم الضمير فينا فما هو إلا صدى المجتمع)،فهو يتعلم،يكتسب ويتأثر
بالعادات والتقاليد والنظم و القوانين(القوالب الاجتماعية) فاللغة هي
وسيلة للاندماج والتكيف وكحتمية فإن الحياة الاجتماعية تفرض نمطا سلوكيا
معينا على الفرد فهو خاضع لمعايير اجتماعية وفي هذا المعنى يقول فالون(إن
الشعور بالذات يتكون بواسطة الآخرين وعلى الرغم من أنهم أسباب للشعور
بالشخصية لكنهم أيضا عقبات يجب تجاوزها حتى يتم كامل الشخصية)،وقد استدل
أصحاب هذا الاتجاه بأدلة وحقائق تدعم هذا الموقف ويذكرون على سبيل المثال
حالة التوأم فلو فصلنا توأمين وأخذنا أحدهما للعيش في مجتمع مختلف عن
الثاني فالاختلاف سوف يكون كبيراً(السلوك والمظاهر الفيزيولوجية) والتي
تبحث عن طريقة كل منهما في التكيف مع مجتمعه رغم اشتراكهما في الخصائص
الوراثية،كذلك حالة إبراز المواهب فكل فرد مزود باستعدادات فطرية ومواهب
ذاتية تظل راكدة إذا لم تجد الشروط الاجتماعية الملائمة بالإضافة إلى بعض
الخصائص التي لها ارتباط وثيق بالمجتمع.
لا ريب أن للمجتمع فضلا ودوراً كبيرا إلا أن متطلبات المجتمع لا تنسجم مع
مقاصد الشخصية،لذا فالشخصية التي تقبل ضغط الأوضاع الاجتماعية ما هي إلا
شخصية قاعدية كما يقول كاردينارأي شخصية سطحية مستعارة)،كذلك إن تأثير
المجتمع في الإنسان متوقف على مدى قابلية الإنسان،فهو ليس عجينة أو كتلة
عضوية حركية فهو يحمل عقلا يسمح له أن يختار ويتخذ من أنظمة المجتمع ما
يتلاءم معه ويتوافق مع تفكيره.
ونظراً لما للوراثة من أهمية ذهب العلماء إلى اعتبار الخصائص الوراثية
ملامح حقيقية للشخصية ومعنى هذا أن الشخصية تكتسب في حدود معطيات وراثية
وما يثبت ذلك في اعتقادهم أن ثمة أطفالاً يولدون أذكياء في حين أن آخرين
أغبياء والسبب في ذلك راجع إلى عوامل وراثية،ولقد تقرر لدى الباحثين في
مجال الوراثة خاصة مندل ذلك أن المزاج ينتقل من الآباء إلى الأبناء وأن
الاستعدادات التي يرثها الطفل ليست استعدادات وسطية حيث تنصهر خصائص كل من
الأب والأم،ذلك أن خصائص كل من الأبوين تبقى متمايزة عن طريق كل من الأم
فقط أو الأب فقط،على أن ما يرثه الطفل ليس تلك الخصائص التي تعلمها أبويه
في حياتهم وإنما تلك القدرات الفيزيولوجية من لون البشرة ولون الشعر،فيما
يتعلق بالتركيبة الفيزيولوجية الداخلية لها تأثير كبير في الطبع بول أحد
الفيزيولوجيينإننا تحت رحمة غددنا الصماء)،وهو قول يؤيد ما ثبت لدى
العلماء من ضعف أو كثرة الإفرازات الغددية الداخلية تفقد الجسم توازنه مما
يجعل الشخصية في حالة غير مستقرة،فبالنسبة للغدة الدرقية التي قال عنها
هوسكيترإننا ندين لغددنا الصماء بجزء غير يسير مما نحن عليه)،إن لها تأثير
على النمو والعمليات الحيوية فإذا زاد إفرازها نشأ عن ذلك نشاط محسوس في
الجهاز العصبي وغيره من الأجهزة وقد ينشأ عنه القلق والاضطراب أما إذا نقص
إفرازها نشا عن ذلك ضعف عقلي وتباطؤ في الأعمال،أما الغدة النخامية
فلإفرازاتها صلة وثيقة بالنمو الجسمي العام فإذا نقص إفرازها عند الطفولة
أدى ذلك إلى القزامة،والعملقة وخشونة الجلد والنضج الجنسي المبكر إذا حدث
العكس،أما الغدة الإندريانية فزيادة إفرازها تؤدي إلى تضخم خصائص الذكورة
عند الرجال وتغلبها عند المرأة مما يؤدي إلى بروز علامات الذكورة
عندها(الصوت الغليظ،بروز شعر اللحية...)،ولدى الطفل تؤدي إلى تكبير النضج
الجنسي وأخيراً الجملة المسؤولة عن التحكم في كل نشاط الجسم وأي اضطراب في
هذه الجملة يؤدي إلى الخلل في السلوك وعدم الاتزان في الشخصية وليس من
الغريب إذا اتخذ القدماء التركيب الجسمي أساساً لسلوك الناس وطباعهم يقول
أرسطوعن الأنوف أن الغليظة والدسمة والأطراف تدل على أشخاص باردي الأجسام
ذوي ميول شهوانية،وإن الجادة مثل الكلاب تدل على الغضوبين السريعي
الاهتياج،وأن المستديرة العريضة مثل الأسد تدل على أصحاب الشهامة وأن
الرقيق المعقوفة مثل النسر تدل على النبلاء المختالين المترفين
المتعجرفين).
على الرغم من كل هذه الحجج والبراهين التي ترجع الشخصية إلى الوراثة إلا
أنه لا يمكننا أن نقر إقراراً مطلقاً بدورها في بناء الشخصية وهذا ما
يؤكده الواقع وذلك لأن هناك اختلافات كبيرة في سلوك الأفراد رغم تشابههم
من حيث النشأة البيئية مثل أفراد الأسرة الواحدة كذلك أن نشاط الغدد لا
يتحدد بالوراثة وحدها بل يتأثر بالمواقف الانفعالية الحادة.
إن كل المحاولات التي قام بها جمهور الفلاسفة والعلماء والمفكرين أخفقت في
الوقوف على النظرة الحقيقية للشخصية و قضية حصول الشخص عليها ذلك أنهم
قاموا بتجزيء الوراثة عن العوامل البيئية والمجتمع في حين أن الأخيرين
يستطيع الفرد أن يقومهما ويهذبهما عن طريق التربية،و يشهد على صحة ذلك
تاريخ بعض الشخصيات البارزة وما سعت إليه،فلقد قيل قديما عن العالم
الفيزيائي فاردي أنه كان طائشا سريع الانفعال لكنه روض نفسه،كذلك نجد
الدين الإسلامي سبّق دور التربية ويتجلى ذلك في قول الرسول صلى الله عليه
وسلمكل مولود يولد على الفطرة فأبوه إما يمجسانه أو يهودانه أو
ينصرانه)،بالإضافة إلى عدم ناسي دور الوعي بمعنى الإرادة والعقل يقول
غيوميغير اتزان الطبع ويخرج إلى الوجود قوى جديدة)،ولهذا لا نستطيع تسخير
إمكانياتنا الملائمة إلاّ إذا سعينا وراء الشخص الذي نمثله.
وخلاصة القول أن اكتساب الشخصية لا يحدده مجرد التقاء المعطيات الفطرية
بالشروط الثقافية وإنما يتوقف على الكيفية التي تستخدمهـا في التركيب وقد
صدق من قال لا أحد يستطيع أن يكون ما يريد ولكنه لا يصنع إلا ما يستطيع).
الطريقة:جدلية. الدرس: الشخصية2.
الإشكال:هل يستطيع الإنسان أن يكتسب الشخصية التي يتمثلها؟.
تعتبر الشخصية من مسائل علم النفس الأكثر تعقيداً بسبب تداخل عوامل بنائها
التي نتج عنها اختلاف في وجهات النظر حول الأهمية التي يحظى بها كل واحد
من تلك العوامل في تكوين الشخصية،وقد اختلف الفلاسفة في كيفية تكوين
الشخصية لاختلاف مناهجهم فمنهم من قال أن الفرد يولد بكيان عضوي يحمل من
الأسلاف صفات تظل تلازمه وهي سمات طبيعية وراثية ،ومنهم من قال أن الفرد
يكتسبها من المجتمع ولكن رغم هذه الآراء ألا يمكن للفرد أن يكتسب الشخصية
التي يتمثلها في ذهنه؟أم أنه هناك عوائق تحد من ذلك؟.
يرى بعض المفكرين من الاتجاه الحدسي والاتجاه العقلاني أن ما يكسبه الفرد
من صفات نابع من إرادته ورغبته فهو يشكل شخصيته عن قراراته التي يتخذها
بإرادته الحرة وهذا ما ذهب إليه الوجوديين وعلى رأسهم جون بول سارتر حين
قال أنا أختار نفسي)،حيث يرى هذا الأخير أن الإنسان يولد ثم يختار مصيره
ويعتمد في نظريته ـ الوجود سابق للجوهر أو الماهية ـ أو بمعنى أصح أن
الكيان المادي للإنسان يوجد أولاً ثم يختار مصيره بنفسه [الإضافة إلى كل
هذا فكل فرد تصوراته العقلية ولكل فرد ولكل فرد قدراته التي تجعله على
اكتساب ما يريد من صفات فالعقل يتصور النموذج الذي الفرد إلى تحقيقه وبذلك
يضع هويته كما يريد فبالإرادة نستطيع أن نخلق أن صنع المعجزات ونكتسب
شخصيتنا الحقيقية رغم ما للشروط الطبيعية والاجتماعية من وزن،فليست طباعنا
هي التي تحدد سلوكنا ومصيرنا وإنما يتوقف الأمر على درجة وعينا
لإمكانياتنا وقوة أو ضعف عزائمنا وحق كما قيللا أحد يستطيع أن يكون ما
يريد ولكنه لا يصنع إلا ما يستطيع)،وقد شهد التاريخ البشري العديد من هذه
النماذج البارزة وما سعت إليه لتحقيق وجودها فلقد قيل قديما عن العالم
الفيزيائي فاردي أنه كان طائشا سريع الانفعال لكنه روض نفسه، وحتى ينجح
المرء في اكتساب شخصية عميقة بمعنى الكلمة بعيدة عن التقليد لابد قبل كل
شيء أن تكون له رغبة في القيام بهذه المهمة وأن يؤمن من كل أعماقه
بإمكانية تحقيقها فلقد قيلاثنان يصنعان العجائب رجل يريد ورجل يهوى)،ولابد
أن يكون ذا دواعي لأن الدواعي تغير اتزان الطبع وتقر للوجود قوى بديلة.
إذن بالإرادة يستطيع الإنسان أن يصنع من نفسه ما يريد والنموذج الذي
يجب،ولكننا لا نستطيع تسخير إمكانياتنا الملائمة إلا إذا سعينا وراء تحقيق
الشخص الذي نتمثله.
إلاّ أن القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن هذه التصورات العقلية لا
يكتسبها الفرد بعيدا عن المعطيات الاجتماعية والبيئية فالإرادة التي يتكلم
عنها هؤلاء لا تخرج عن كونها إرادة جماعية خاصة بمعايير و أطر يفرضها
المجتمع على أفراده ولكل خروج عن هذه الإرادة مآلة الفشل كما أن الفرد
مرهون بمعطيات وراثية بالإضافة إلى كل هذا فإن دور القرارات الإرادية
محدود أمام العوامل السالفة الذكر.
وعلى عكس الرأي الأول نجد المدرسة الاجتماعية التي ترى أن الإنسان مرهون
ومربوط بحتميات لا يمكنه الخروج عنها و باعتبار أن المجتمع هو المكان
الوحيد لبروز الشخصية وتكاملها فإن الإنسان في نظرهم عجينة في يد المجتمع
وفي هذا يقول هربرتالطفل صفحة بيضاء يكتب عليها المربي ما يشاء)، كذلك نجد
الغزالي يقولالطفل كالعجين يستطيع المربي أن يكونه كما يشاء)،والشخصية لا
تنشأ أو تتشكل دفعة واحدة بل تنشأ بالتدرج يقول ألبورت(لا يولد الطفل
بشخصية كاملة بل يبدأ بتكوينها منذ الولادة)،وأيضا يقول فالونإن الشعور
بالذات ليس أمراً أوليا بل محصول تطور بعيد لا تبدأ نتائجه بالظهور قبل
السنة الثالثة) فالشخصية في تكوينها تمر بمراحل تعد الأساس في تكوينها هي
مرحلة اللاتمايز والشعور بالأنا.والإنسان بطبعه اجتماعي كما يقول بن
خلدونالناس على دين ملكوهم)،ودوركايم الذي يقولإذا تكلم الضمير فينا فما
هو إلا صدى المجتمع)،فهو يتعلم،يكتسب ويتأثر بالعادات والتقاليد والنظم و
القوانين(القوالب الاجتماعية) فاللغة هي وسيلة للاندماج والتكيف وكحتمية
فإن الحياة الاجتماعية تفرض نمطا سلوكيا معينا على الفرد فهو خاضع لمعايير
اجتماعية وفي هذا المعنى يقول فالون(إن الشعور بالذات يتكون بواسطة
الآخرين وعلى الرغم من أنهم أسباب للشعور بالشخصية لكنهم أيضا عقبات يجب
تجاوزها حتى يتم كامل الشخصية)،ونجد من الفلاسفة من ذهب على شاكلة هذا
الطرح ومن بينهم هالفاكس الذي يقولإن الشخصية هي حصيلة الحياة
الاجتماعية)،و يقول سبينزاأعطني دما ولحما وعظما – جنينا-أعطيك ما
تريد)،وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة وحقائق تدعم هذا الموقف فلو فصلنا
توأمين وأخذنا أحدهما للعيش في مجتمع مختلف عن الثاني فالاختلاف سوف يكون
كبيراً(السلوك والمظاهر الفيزيولوجية) والتي تبحث عن طريقة كل منهما في
التكيف مع مجتمعه رغم اشتراكها في الخصائص الوراثية،كذلك حالة إبراز
المواهب فكل فرد مزود باستعدادات فطرية ومواهب ذاتية تظل راكدة إذا لم تجد
الشروط الاجتماعية الملائمة بالإضافة إلى بعض الخصائص النفسية مثل الشجاعة
والكرم والبخل...
لا ريب أن للمجتمع فضلاً ودوراً بارزاً في تكوين الشخصية إلا أن متطلبات
المجتمع لا تنسجم مع مقاصد الشخصية،فالشخصية التي تقبل ضغط الأوضاع
الاجتماعية ما هي إلاّ شخصية قاعدية كما يقول كاردينارأي شخصية سطحية
مستعارة)،كذلك إن تأثير المجتمع في الإنسان متوقف على مدى قابلية الإنسان
فهو ليس عجينة أو كتلة عضوية حركية فهو يحمل عقلاً يسمح له أن يختار أو
يتخذ من أنظمة المجتمع ما يتلاءم مع معه و يوافق تفكيره.
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين هو أنهما طرحتا مشكلة الشخصية على
جانب واحد وذلك لاختلاف مناهجهم إلاّ أن شخصية الفرد لا يمكن أن تتكون
إلاّ من جانب إنساني وذلك من خلال المجتمع بالإضافة إلى كل هذا فإن
الإرادة تلعب دوراً بارزاً وأساسياً مع هذه التفاعلات لا يمكننا أن ننسى
دور الجانب الفطري الوراثي الذي يطبع الشخصية بطابعه المميز.
وفي الأخير وكحوصلة لما سبق فإن الفرد يكتسب الشخصية السي يريدها وفي إطار
الحتميات الحسية والنفسية والاجتماعية وبهذا يمكن للشخص أن يوجد الشخصية
التي يتمثلها في ذهنه إذا لم تتعارض مع الواقع فقد صدق من قاللا أحد
يستطيع أن يكون ما يريد لكنه لا يصنع إلا ما يريد).
الطريقة:جدلية. الدرس: الحرية والتحرر.
الإشكال: هل الإنســان حر؟.
إن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضا والتباساً فالشعوب تكافح من أجل
حريتها والأفراد لا يتحملون أي حجز على حريتهم الشخصية ومما لاشك فيه أن
الحرية هي من أقدم المشكلات الفلسفية وأعقدها فقد واجهت الباحثين من قديم
الزمان وما زالت تواجههم إلى يومنا هذا فهي من أكثر المبادئ الفلسفية
اتصالاً بنا بعد الطبيعة فضلاً عن صلتها بالأخلاق والسياسة والاجتماع وقد
تناول العديد من الفلاسفة والمفكرين هذا المبحث فمنذ وعي الإنسان لنفسه
سعى إلى تحقيق حريته بشتى الوسائل والطرق ولكن جمهور الفلاسفة اختلف في
الإشكالية التالية:هل الإنسان حر أم أن هناك قيود وعوائق تقييد حريته؟.
يرى بعض الفلاسفة الذين يقرون بأن الإنسان حر وهم يستندون في هذا إلى عدة
حجج أهمها الحجة النفسية و الذين يرون بأن الشعور بالحرية دليل كاف على
إثباتها فمثلاً ويليام جيمس يرى أن الحرية هي قوام الوجود الإنساني الذي
مراده الإدارة الحرة الفعالة فلا نشعر بحريتنا إلاّ ونحن قادرون فعلاً على
الفعل والتأثير أما ديكارت فيقولإننا لا نختبر حرية إلاّ عن طريق شعورنا
المباشر)،فهو يرى أننا ندرك الحرية بلا برهان وهو يقول في هذاإننا واثقون
من حريقا لأننا ندركها إدراكاً مباشراً فلا نحتاج إلى برهان بل نحدسها
حدساً)،بحيث يرى أن إحساس الإنسان الداخلي بالحرية *الواضح والمتميز* دليل
كاف على ذلك ويقول لوسينكلما في نفسي عن القوة التي تقيدني كلما أشعر أنه
ليست لي أية قوة عدا إرادتي ومن هنا أشعر شعورا واضحا بحريتي)،أما من
الفرق الإسلامية التي تثبت ذلك فالمعتزلة يرون أن تجربة الشعور الداخلية
كافية على أننا أحرار يقول الشهر الستانيالإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل
فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن)،ومعناه أن الأفعال التي يقوم
بها إنما يمارسها بإرادته وحسب الظروف التي تلائمه بالإضافة إلى هذا نجد
برغسون الذي يميز بين مستويين من الأنا فالأنا السطحي بالنسبة له يمثل
ردود الفعل و الاستجابات العفوية والعادات التي يقوم بها الإنسان تحت
تأثير العوامل الخارجية،أما الأنا العميق فهو مصدر الحرية الحقيقي الذي
تشعر به عندما نلتزم بإرادتنا واختيار بعيد عن الحتميات لذا نجسد حريتنا
بعيدا عندما نقف من أنفسنا مواقف نقد وتقييم واعية وبهذه الصورة الواعية
تسمع صدى الحرية الهافت الذي يسري كديمومة مفصلة لا تتوقف،أما أصحاب الحجة
الاجتماعية فهم يرون أن الحرية ممارسة فعلية تتجسد في الحياة الاجتماعية
فالآخر هو سبب وجودها ويمكن أن يكون عائقا لها فبدون المجتمع لا يمكن أن
توجد قوانين عادلة تحمي الحريات الفردية فتصبح الحرية مسؤولية لذا فإن كل
المجتمعات تعاقب أفرادها عند مخالفة قوانينها ولا تعاقب الأفعال التي لا
قدرة لهم عليها وهذا يعني قدرة الإنسان على الاختيار و بهذا يمكن التكلم
عن شخصية بدون مقومات اجتماعية ولا الحديث عن حرية الإنسان المغترب يقول
مونيكوالحرية الفعل وفق ما تجيزه القوانين الاجتماعية)،فبدون المجتمع لا
يمكن أن نتحدث عن المسؤولية بدون حرية الاختيار،أما أصحاب الحجة الأخلاقية
فهي حسب كانط أساس تأسيس أو تحديد الأخلاق فالواجب الأخلاقي يتطلب قدرة
للقيام به يقول كانطإذا كان يجب عليك فأنت تستطيع)،ويقولإن إرادة الكائن
العاقل لا يمكن أن تكون إرادته إلا تحت فكر الحرية)،أما أصحاب الحجة
الميتافيزيقية فروادها المعتزلة وهم يرون أن الإنسان حر ويوردون حججاً من
القرآن الكريم تنسب إلى الإنسان حريته في اختيار أفعاله يقول الله
تعالىفمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)،وقوله تعالىفمن يعمل مثقال ذرة خيراً
يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)،فهو بذلك أو ذاك حر مخير،واعتمدوا أيضاً
على مبدأ التكيف يقول الله تعالىلا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها)،فالتكيف
يكون هنا سفها إذا كان(اعمل يا من لا قدرة له على العمل)،ولكن بصيغة(اعمل
يا من تستطيع أن تعمل)،وبالتالي إمكانية صدور الفعل أو عدمه فهو الاختيار
وما يبرز هذا هو الثواب والعقاب والجنة والنار فالله لا يحاسبنا على
الأفعال التي لا نكون مسئولين عنها يقول تعالىوما ربك بظلام للعبيد)،ولا
معنى للثواب وللعقاب إذا كان المرء مجبراً مكرهاً.
لكن رغم هذه الأدلة والبراهين لم يصمد هذا الرأي للنقد ذلك أنه ما من شك
غير كاف كذلك أنه يمكن أن يكون وهما وخداعا لأننا نقوم بأعمال معينة مع
شعورنا بحريتنا إلاّ أننا مقيدون بعدة أسباب كذلك أن البرهان الاجتماعي
نائم على الشعور بالحرية أثناء عقد القوانين وقيام الأنظمة الاجتماعية
فالشعور يكفي للتدليل بها فهو يثبتها كما يثبت الحتمية ولا معنى للقانون
والنظام ما لم يعمل به أصحابه وشروطه،أما أصحاب الحجة الأخلاقية فهي قائمة
على التسليم بالحرية حتى لا تتهدم وفكرة التسليم لا تكفي للبرهنة عليها
لأننا نستطيع التسليم بعدم وجودها كما سلمنا بوجودها أما بحث المعتزلة فقد
باء منصبا أكثر على الإنسان المثالي المجرد المتصور عقلاً لذلك وضع الحرية
في زمن الفعل في حين أن مشكلة حرية الإنسان الواقعي ومطروحة على مستوى
الفعل و مواقف الحياة التي تواجهها واعتمادهم على آيات هذا صحيح.
وعلى عكس الرأي السابق نجد من ينفي الحرية فهم يعتبرون الحرية وهماً لا
يمكن تحقيقه وإن وجدت فوجودها ميتافيزيقي لا علاقة له بحياة الأفراد وذاك
لما يقيدهم من حتميات داخلية وخارجية،فأصحاب الحتمية النفسية ومن بينهم
المدرسة السلوكية الأمريكية وعلى رأسها والن يرون أن السلوك عبارة عن
الاستجابات التي تتحكم فيها منبهات داخلية وخارجية كالرغبات والميولات
والدوافع الفطرية والعوامل الخارجية التي تشكل مصدراً هاماً لأفعالنا،أما
مدرسة التحليل النفسي فتفسر السلوك بدوافع لا شعورية أساسها الكبت يقول
نتشهإن إرادة تجاوز ميل ما ليست إلا إرادة آدميون أخرى)،ويقول أحد
الفلاسفةكل قرار هو مأساة تتضمن التضحية برغبة على مدرج رغبة أخرى)،أما
أصحاب الحتمية البيولوجية ونقصد به مبدأ العلمية القائل انه إذا توفرت نفس
الأسباب فستؤدي إلى نفس النتائج ومن ثم توسيع هذا المبدأ على الإنسان
باعتباره جزءا من الطبيعة فهو حامل منذ ولادته لمعطيات وراثية وخصائص
ثابتة والطبع في رأيهم تحديد فطري و البنية البيولوجية تنمو وتتكامل حسب
قانون معين فهو يخضع لجملة من القوانين حيث نجد الروانيون وكذلك بيسنوزا
الذي يقولإن الحرية لا تكون إلا حيث نكون مقيدين لا بعامل القوى والضغوط
ولكن بعوامل الدوافع والمبررات العقلية...وعندما نجهل دوافع تصرفنا فنحن
على يقين بأننا لم نتصرف تصرفا حراً)،أما أصحاب الحتمية الاجتماعية فهم
يؤكدون أن الإنسان مجرد فرد يخضع للجماعة كالعجينة يشكله المجتمع كما يريد
وذلك عن طريق التربية والتعليم والتجارب الاجتماعية فلا وجود للحرية
الفردية داخل الحتميات الاجتماعية *ثقافية،اقتصادية* والتي لا يمكنه أن
يغير فيها مهما حاول ذلك يقول بن خلدونالناس على دين ملوكهم)،ويقول
دوركايمإذا تكلم الضمير فما هو إلا صدى المجتمع)،ويقول أيضاًلست مجبراً
على استخدام اللغة الفرنسية لكن لا أستطيع التكلم إلا بها ولو حاولت
التخلص من هذه الضرورة لباءت محاولتي بالفشل)،أما أصحاب الحجة
الميتافيزيقية فنسبهم إلى جهم بن صفوانلا فعل لأحد في الحقيقة إلاّ لله
وحده وإنه هو الفاعل و أن الناس دائماً تنسب إليهم أعمالهم على المجاز كان
يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما يفعل ذلك بالشجرة والشمس
و الفلك الله سبحانه وتعالى)،ويقول أيضاًلا قدرة للعبد أصلاً لا مؤثرة ولا
كابسة بل هو بمنزلة الجماد فيما يوجد منها)، إن هذا الرأي عندهم مبني على
أصل عقائدي هو أن الله مطلق القدرة خلق العبد وأفعاله هو يعلمها قبل
صدورها من العبد بعلمه المطلق ،بالإضافة إلى هذا نجد لايبنتز الذي يرى أن
الإنسان عبارة عن جوهر روماني سماه المنادة يستمد كل مقوماته من ذاته التي
أعدت بكيفية آلية مسبقة مثل الساعة،ولما كان الخير والشر مقدر على الإنسان
في طبيعته تركيب روحي فهل بقي ما نسميه اختيار يقول لايبنتزالله مصدر جميع
أفعال الإنسان بخيرها وشرها وكل شيء مسطر في سجل الكون الأبدي)،أما أنصار
الحتمية الطبيعية فقد اعتبروا أن سلوك الإنسان متدرج فمن سلسلة الحوادث
الطبيعية كونه كائن حي كبقية الكائنات الحية وعلى أساس أن الظواهر
الطبيعية تخضع لقوانين وحتميات فيزيائية وكيميائية وتؤدي في نفس الوقت إلى
نفس النتائج فسلوك الإنسان باعتباره جزءاً منها يخضع لهذه الحتمية حيث يرى
بيسنوزا أن الشعور بالحرية ليس وهماً راجع إلى جهلنا بالحتميات كالحجر
الساقط يتوهم أنه حر لو كان له شعور لكنه في الواقع خاضع لقانون الجاذبية
يقول بيسنوزاإن الناس يخدعون أنفسهم بأنهم أحرار لكنهم في الحقيقة يحملون
الأسباب الحقيقية التي تحدد سلوكهم)،ويرى البعض أن فعل الإنسان ليس
تعبيراً عن الباحث الأقوى يقول لايبنتزالإرادة إذ نختار تميل مع إحدى
القوى أو البواعث أثر في النفس كما تميل إبرة الميزان إلى جهة الثقل).
إن هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد فبالنسبة للحتمية النفسية فإن
الإنسان ليس مجرد حزمة من الغرائز والدوافع فهو قادر على التحكم فيها كما
هو ملاحظ في الواقع وبإمكانه تنظيمها وفق نتائج مرغوبة ومقصودة وبدون هذه
الرغبات والعادات يصبح لا معنى لأفعالنا فالحرية رغبة وميل ينبثق من كل
إنسان أما الحتمية البيولوجية فالإنسان ليس جسما ولا شيئاً من أشياء
الطبيعة ولا يرجع سلوكاته إلى التغيرات الفيزيولوجية وحدها فهو قادر على
التحكم في سلوكه وطبعه ولا يمكن التنبؤ بمستقبل سلوكه أما بالنسبة للحتمية
الاجتماعية فالإنسان ليس مجرد عجينة في يد المجتمع فهناك مجالات واسعة
بوجودها المجتمع الفرد كي يتمكن من الاختيار الحر لحرية مضمونة في
القوانين الاجتماعية ولا قيمة لها خارج المجتمع ونلاحظ أن بعض العلماء
والزعماء من أثروا في المجتمع ودفعوه إلى التغيير وليس العكس،أما بالنسبة
للحتمية الميتافيزيقية فإن دعواهم أمر مظلل فهي أساس دعوة للكسل والخمول
مع وظيفة الإنسان في الكون فهو مخير لا مسير وهذا استناداً لقوله تعالىلا
يغير الله ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم)،أما الحتمية الطبيعية فإن علاقة
الإنسان بالطبيعة ليست علاقة تبعية بل بالعكس علاقة جدلية يؤثر فيها
ويتأثر بها ويتخذ فيها الأسباب الأساسية لحياته ومن إمكانياتها مصدر تنافس
وتفاوت بينه وبين الأفراد كذلك أن الفعل الحر لا ينفي السببية لأنه هو
نفسه معول بعلة الإنسان.
إن هذه الآراء وجميع الحجج والأدلة المعتمدة لنفي الحرية باسم الحتمية أو
إثبات الحرية عن طريق ما نعيشه أو على أساس قوى مفارقة للطبيعة لا يمكن أن
تكون كافية، ذلك أن الحتمية لا تنفي الحرية إلاّ ظاهرياً أما جوهرها فهو
أساس الحرية وشرط من شروط الحرية الحقة وفي هذا يقول أحد الفلاسفةلا علم
بلا حتمية ولا حرية بدون علم إذن لا حرية بدون حتمية)،فلا تحرر إلاّ
بمعرفة الحتميات والعراقيل وفي هذا يقول مونيإن كل حتمية جديدة يكتشفها
العالم تعد نوطة تزداد إلى سلم أنغام حريتنا).
وخلاصة القول فإننا نصل إلى نتيجة هي أنه لا يوجد تعارض بين الحرية
والحتمية فلولا وجود هذه الحتميات ما كان للحرية معنى لما ثقفه الإنسان
عبر التاريخ لنفسه وبني جنسه فالحتمية أساس وشرط ضروري لتحقيق الحرية.
الإشكالية: هل الثقافة ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة أم هي ما يقابلها به؟.
نشأ الفرد في أحضان الطبيعة وخضع لمؤثراتها وقوانين التطور الطبيعي وتكيف
مع شتى المؤثرات الطبيعية مثل بقية الكائنات الحية ولأن الوجود الإنساني
قائم في أساسه على الجدلية بين الثقافة والطبيعة, والإنسان بحكم طبيعته
مطالب بتحقيق وجوده من خلال تأثيره على محيطه وهكذا عندما يقذف بالفرد في
الجماعة فانه يأخذ في اكتساب ألوان من التصرفات المختلفة بحيث أنه يتصل
بالثقافة وتراثها ومن هنا يتبادر إلى أذهاننا الإشكال التالي:هل هذا
الاتصال هو عبارة عن أشياء يضيفها الإنسان إلى الطبيعة أم يقابلها به ؟
يرى أنصار الاتجاه الذي ينادي بالإضافة أن الطبيعة ليست الحياة البيولوجية
ولا الفيزيولوجية التي يولد عليها الفرد فحسب بل أيضا البيئة الفيزيائية
التي يستقر فيها المجتمع، إن الثقافة متعددة المفهوم, فهي في اللغة
الفرنسية تعني العناية بالأرض أي بفلاحتها وزراعتها ويفهم من هذا أن الأرض
من غير ما يضاف إليها من نشاط إنساني لا تنتج شيئا يستجيب لمطالب الإنسان،
فالثقافة إذا هي ما يضاف إلى الطبيعة الجغرافية من نباتات أو أنها تتمثل
في منتجات الأرض, وإذا نظرنا نظرة الانثروبلوجيين قلنا بان الثقافة ما
تنطوي عليه من لغة وتقنية ومؤسسات اجتماعية كثيرة تبقى مدة طويلة بعد موت
الأفراد الذين أنتجوها وفي هذا السياق يقول جوزيف فغتر أن الأفراد يذهبون
ويجيئون ولكن الثقافة تبقى مستقرة) وكأن الثقافة كل مستقل بذاته له كيانه
وقيمته باعتبار أنها (صفة الكائنات الإنسانية مهما كان المكان الذي يحيون
فيه أو أسلوبهم في الحياة ) على حد تعبير هوسكو فيتز، فالفرد زاد على
البقعة الجغرافية أشياء يسميها بعضهم بالبيـــئة الاصطناعية وهي التي عملت
على تخليده انه خالد في الطبيعة بانتاجاته الفنية ومؤلفاته الأدبية
والعلمية ومعتقداته الدينية، إلا أن الثقافة تفقد معناها بانعدام الجنس
البشري ونجد مارغريت مد إحدى الأنثروبيولوجيات في أمريكا ترى أن الثقافة
عبارة عن (استجابة الإنسان لإشباع حاجاته الأساسية فهي عبارة عن الوسائل
التي يلجأ إليها الإنسان ليعيش معيشة مريحة في العالم) إذا فالثقافة تسمح
للمكتسب بالتلاؤم مع الوسط الطبيعي وتبقى جزءا أساسيا من الحياة
الإنسانية.
إن هذا الرأي رغم كل الحجج والأدلة لم يصمد للنقد لأن الواقع يشهد أن
الإنسان لم يترك زمام مصيره للطبيعة بل أراد أن تكون له اليد الطولى في
تقرير مصيره واستطاع بذلك الخروج من دور التاريخ الطبيعي إلى دور التاريخ
الحضاري.
وعلى عكس الرأي السابق نجد أنصار الاتجاه المنادي بالتضاد بحيث يرون أن
الإنسان ما كان ليوجد ذلك الصرح الثقافي إلا من اجل التكيف مع البقعة
الجغرافية ومن مظاهر
التكيف الدفاع ضد العوامل الفيزيائية القاسية من برودة وحرارة وجبال وبحار, وكذلك خرق ستار الألغاز الطبيعية وتجاوزها.
إن تطور العلوم وظهور الأديان أعطت السيطرة للإنسان فتطور الفرد ثقافيا
واجتماعيا جعله ينفصل شيئا فشيئا من آثار البيئة فهو يحاول دائما ابتداع
الكثير من الوسائل التي تمكنه من مغالبة سيطرتها ضمانا لبقائه واستقرارا
لحياته وقد استطاعت المجتمعات أن تقهر الطبيعة وتذلل صعوباتها فشقت
الأنفاق وجففت البحيرات وعمرت الصحاري وغيرت مجاري الأنهار, وكذلك نجد أن
الثقافة تغير الكثير من ميولنا الفطرية وتعدل اتجاهاتنا حتى تتمشى في وفاق
مع المجتمع ذلك لان معظم الصفات الطبيعية توجد عند الطفل في شكل قدرات
كامنة والبيئة الثقافية هي التي تنميها وتغذيها وقد أمكن لحد كبير التدخل
في عامل الوراثة وإخضاعه للرقابة الاجتماعية بفضل ما توفره الثقافة من
شروط وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الثقافة تقف في وجه الخصائص
البيولوجية الفيزيولوجية كمراقب صارم كأنها تنافس الطبيعة ويجدر بنا إذا
أن نقابل الثقافة بالطبيعة وذلك من خلال المنجزات الايجابية التي حققها
الإنسان فقد كان اقل من الطبيعة فأصبح أعظم منها, لا يعنيه غضبها ولا
رضاها لقد أنقذه الدين من الخوف والعجز العقلي كما أن الفن ساعده على
الانفلات من الواقع بفضل الخيال من اجل الترويج على النفس وتسليتها.
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد لأنه لا يمكن نفي الرأي الأول بالإضافة
إلى ذلك نجد آن العلاقة تارة في صورة إضافة, وتارة أخرى في صورة مقاومة.
انه من العسير علينا الوقوف على الحد الفاصل بين الثقافة والطبيعة
فالتباين الذي يخيل لنا انه موجود بينهما ليس بالتباين المطلق لأن
القوانين التي تسيطر على نمو الحياة الطبيعية هي نفسها التي تسيطر على
تكوين الحياة الثقافية.
وخلاصة القول يمكننا أن نقول أن الثقافة تبدو علاقتها بالطبيعة تارة في
صورة إضافة وتارة أخرى في صورة تضاد وصراع غير انه لا يجب علينا أن نقابل
الثقافة بالطبيعة مقابلة مطلقة لأنهما كل متكامل ومتشابك يستعصي التمييز
فيه بين الفطري من جهة والمكتسب من جهة أخرى.
قال البروفيسور شاربل عميد كلية الحقوق في جامعة فيينا:<<إن البشرية
لتفخر بانتساب محمد إليها ذلك الأمي الذي استطاع أن يأتي بشريعة سنكون نحن
الأوربيون اسعد ما نكون, لو وصلنا إلى قمتها بعد ألفي عام >>
يقول مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة):<< الثقافة هي ذلك الدم
في جسم المجتمع يغذي حضارته و يحمل أفكاره (الصفوة)كما يحمل
أفكار(العامة)و كل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات
المتشابهة والاتجاهات الموحدة والأذواق المتناسبة>>.
الطريقة:جدلية الدرس:العواطف والأهواء
الإشكال:هل مصدر العاطفة الذهن أم الجسم ؟
تعد العاطفة هي تلك الحالة الانفعالية المعقدة الثابتة والمستديمة وغير
العنيفة على خلاف الهيجان وهي أنواع كثيرة, وهي كذلك استعداد انفعالي
مكتسب ولهذا تتميز عن الميول الفطرية رغم أنها نبتت منها فهي تتأثر
بالعوامل الاجتماعية وتنمو وتقوى تحت تأثير التفكير والتأمل والتجارب
الانفعالية المختلفة ولأهمية هذا المبحث اختلف الفلاسفة لاختلاف مناهجهم
حول إعطاء مصدر حقيقي للعواطف بشتى أنواعها والتساؤل الذي يتبادر إلى
أذهاننا.هل يمكن إرجاع العاطفة إلى الذهن آو الجسد؟
يرى الذهنيون ومن بينهم هر برت أن مصدر العواطف هو الاتفاق والاختلاف بين
تصوراتنا وأفكارنا والعواطف بالنسبة إلى أفكارنا مثل الاتساقات بالنسبة
إلى الأصوات الموسيقية التي نؤلفها مثال ذلك أنني عندما أكون في حالة
انتظار صديق فإنني أتصور مجيئه وصدق حديثه فإذا وردت علي منه رسالة تؤكد
زيارته فان الفرحة ستغمرني أما إذا أنبأتني الرسالة بعدم قدومه فان هذه
الفكرة ستصطدم بالأفكار الأخرى التي كنت أغذيها في نفسي أتوقعها فيشملني
الحزن.
إلا أن هذه النظرية لم تصمد للنقد ذلك أنها تفسر عاطفة بعاطفة أخرى لا غير
لأن الانتظار الذي يثير السرور هو في الحقيقة رجاء إثارته رابطة الصداقة
التي تربطني بالصديق وليس الرجاء والصداقة مجرد فكرة بل هما عاطفتان قد
تولدتا أو تكفان عواطف أخرى وكل ما في الأمر أن النظرية تفسر إلى حد ما
العواطف الفكرية التي تنشأ على الاتفاق أو الاختلاف بين الأفكار هذا علاوة
على أن تهمل التغيرات العضوية التي تصحب ظهور العواطف مصاحبة متراوحة في
الشدة.
وعلى عكس الرأي السابق يرى أنصار النظرية الفيزيولوجية وعلى رأسها وليام
جيمس أن الاضطرابات العضوية التي تحدث للإنسان في حالة العاطفة خاصة
العاطفة الدينية وقد وسع ريبو هذه النظرية وعندئذ وقع الربط بين العاطفة
الدينية والقشعريرة التي يشعر بها المتدين كما استدلت هذه النظرية
بالاضطرابات العضوية التي تظهر على المتصوفين وقد جاء في القرآن الكريم
مصداقا لقوله تعالىمثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ) , وقال أحد
الشعراء العرب:
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر
كما أن العاطفة الخلقية في صورة استنكاف تصحبها تغيرات فيزيولولجية و
كثيرا ما تصحب العاطفة الجمالية حركات واضحة في الغناء و الرقص ومن العادة
أن يذكر بهذا الصدد ما حدث لـ مقبرانش من تسارع في حركة القلب بشكل عنيف
عندما كان يقرا كتاب(الإنسان لديكارت)مما جعله مرارا يترك قراءته للتنفس.
إن هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد ذلك أن العاطفة مثل الهيجان لا تنفصل
عن الجسم ومهما كانت الاضطرابات العضوية مختلفة في الهيجان, والعاطفة من
حيث الدرجة فقط, فان هذا الجانب الفيزيولوجي يبقى دائما عاجزا عن تفسير
نوعية العواطف والمعاني الخاصة التي تكتسبها.
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين أنهما جزأتا العواطف الوجدانية لدى
الفرد بحيث طرحت العاطفة الإنسانية بشتى أنواعها, الأولى على النفس
والثانية على مستوى الجسم في حين عواطف الفرد مصدرها النفس والجسم معا
وبدون توفر هذين الشرطين يصبح لا معنى لعواطفنا وأهوائنا بدون أن ننسى
العوامل الاجتماعية.
وفي الأخير وكحوصلة لما سبق فان العاطفة ليست في الجسد ولا في النفس,
وإنما في الإنسان كجزء لا يتجزأ,وان كل المحاولات الرامية لفصل الجسد عن
الروح أو العكس مآلها الفشل ذلك انه لا يمكننا أن نجد فردا بدون جسد له
عواطف سامية أو العكس,فالإنسان ليس ملكا كما انه ليس بشيطان.
الطريقة:جدلية الدرس:الهيجان2
الإشكال:هل للانفعال الهيجاني دور ايجابي في سلوك الفرد أم أنه مجرد سلوك عشوائي؟
لا ينكر أحد أن الهيجان الفعال حاد يصيب الفرد في سلوكه وحياته النفسية و
وظيفته العضوية هذا الانفعال أثار جدلا واسعا بين جمهور الفلاسفة والعلماء
حول جوهر حقيقته، وبما أنه سلوك انفعالي ينقل الفرد من حالته الطبيعية إلى
حالة اضطراب فهل هذه الأخيرة تعتبر حالة تلاؤم وتأقلم مع الوضع الجديد
وبالتالي شيء إيجابي،أم أنه حالة من الفوضى واللاتأقلم وبالتالي حالة
عشوائية؟.
يرى أنصار الاتجاه الإيجابي – النظرية الغريزية – وعلى رأسهم جورج دوماس،
داروين، كانون، برغسون أن الهيجان ذو طابع إيجابي ذلك أن المصادمة
الحقيقية تعمل(من الناحية السيكولوجية)كمنشط بصورة عامة فيقوى النشاط
العقلي ويتسع الخيال و يشتد الانتباه وينل على المنفعل شيء من الإلهام
فيندفع إلى الابتكار ويتكيف بصورة عجيبة مع المشاكل الطارئة فانفعال
الغيرة بين العمال من شأنه أن يدفع إلى المنافسة في العمل والابتكار في
الإنتاج والغيرة أيضا بين الدول تدفع المناضل الملتهب حماسا إلى التضحية
بنفسه في سبيل السير بوطنه قدما نحو الرفاهية والازدهار وعلى هذا الأساس
تكون الهيجانات بمثابة القوة الخالقة على حد تعبير برغسون(إن العلماء
الذين يتخيلون الفروض المثمرة والأبطال والقديسين الذين يحددون المفاهيم
الأخلاقية لا يبدعون في حالة جمود الدم وإنما يبدعون في جو حماسي وتيار
نفسي ديناميكي تتلاطم فيه الأفكار وتتضارب)ونجد برادين الذي يرى أن
الهيجان ينشط الخيال والعقل مثلا الخوف يدفعنا إلى الحيطة والحذر وإيجاد
الوسائل لحماية النفس والغضب البسيط يدفع الإنسان إلى الثأر لكرامته
وتدبير أموره.
للهيجان أهمية كبرى في حفظ حياة الكائن الحي فهو يهيئ البدن للقيام بما
تتطلبه المواقف الانفعالية الطارئة من مجهود ونشاط يقول كانونإن زيادة
إنتاج الإدريانين في الدم مثلا أو ازدياد مقدار السكر يكسب الجسم مناعة
تنشط العضلات لمقاومة التعب وازدياد سرعة خفقان القلب يساعد في سرعة توزيع
الدم في جميع أجزاء البدن والأطراف على وجه الخصوص ليمكنها بما تحتاج إليه
من نشاط)و يفهم من هذا أن التغيرات الفيزيولوجية في حالة الانفعال أمر
ضروري و طبيعي لبقاء الجسم، وإذا كان الهيجان عنصرا ضروريا للنفس والبدن
فذلك لمواجهة الظروف الخارجية يقول داروين (إن الهيجان لا يهيئ الكائن
الحي لوضع داخلي فقط، إنه وسيلة للتلاؤم مع الظروف الموضوعية
المفاجئة)فالقط مثلا عندما يهتاج ينتصب شعره ويتقوس ظهره و تنكشف أظافره،
والحشرة تتشبه بلون المحيط الذي تكون فيه.
بالرغم من كل هذه الأدلة إلا أن النظرية لم تصمد للنقد ذلك أن الهيجان لا
يحقق دائما النتائج المتوقعة فقد لا يصلح للدفاع وحماية النفس و لا لحماية
القيم الأخلاقية التي تفترض رزانة وإقناعا بالحجة كذلك أن الهيجان لا يكفي
وحده لأنه يستدعي خبرة ودراية بالأمور أما من ناحية الجسم فهذا ليس صحيحا
دائما ذلك أن الحالات الطارئة يشكل فيها الاندفاع تهورا خطيرا.
وعلى عكس الرأي السابق ونظرا للاعتبارات السابقة الذكر فإن العديد من
المفكرين ورجال التربية يرون أن الهيجان سلوك فاشل فلو حللنا سلوكا
هيجانيا للاحظنا أن الهيجان يشل الفرد من الناحية النفسية الفيزيولوجية
ويفقده التلاؤم مع المواقف الطارئة فمن الناحية النفسية يتعطل الفكر عن
النشاط العادي ويصعب على الفكر أن يراقب ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، إن
الهيجان عاصفة تستبد الإنسان وتجرف كل ما تجده في طريقها فتهدد مقوماته
الشخصية، أما من الناحية الفيزيولوجية فالهيجان يحدث في بدن المهتاج عدة
تغيرات فيزيولولجية هامة تدل على عشوائية السلوك فمن الناحية الداخلية
تحدث تغيرات في الدورة الدموية وفي نشاط المعدة والأمعاء والغدد والعضلات
ومن بين العلماء الذين فسروا الهيجان تفسيرا سلبيا بيارجاني إذ يقول (إن
الهيجان سلوك أدنى من المستوى المطلوب إنه سلوك فاشل يتميز فيه المثير
بالمفاجأة والحدة والعضوية، هنا لا نملك القدرة على المواجهة فيسوء
التكيف)ومعنى هذا أن الإنسان ينتقل من حالته الطبيعية إلى حالة تجعله
فريسة للسلوك الشاذ، وقد تبين من خلال التجارب على الإنسان أن الهيجان
يؤثر في التيارات الكهربائية الدماغية المتولدة عن نشاط الملايين
من(النورنات)بحيث يحصل إبطاء في مفعول (ألفا)وظهور موجات بطيئة من
نوع(دلتا)وهذه الموجات تعود العلماء على مشاهدتها عند المرضى العقليين
والأطفال ومن الناحية الدينية نجد ديننا الإسلامي الحنيف يدعونا إلى عدم
الغضب وهذا ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم(لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب،
فإن الغضب يأكل الحسنات كما تأكل النار الهشيم).
رغم هذه السلبيات للهيجان إلا أنه لا يمكننا أن ننكر بعض الجوانب
الإيجابية التي تنتج عنه ومع هذا وذاك يبقى الهيجان سلوك قابل للتهذيب
والتعديل بواسطة التربية فكلما تفادى الفرد وترفع عن السلوكات الانفعالية
كان أكثر نجاحا.
إن عملية المد والجزر التي قام بها جمهور الفلاسفة لقيمة الهيجان لا يمكن
أن نحكم بمقتضاها على قيمة أثر الهيجان ومردوده في المجالات النفسية
والحيوية والاجتماعية والسبب في ذلك أن الناس ليسو متشابهين إطلاقا
فالكثير منهم لا يقوى على صناعة شيء من الأعمال السامية إلا بهزات عنيفة
من الهيجان في حين أن هناك أناس يتهيجون لأتفه المنبهات فيسقطون في الخمول
ويتوقفون عن السعي وبذلك فهو حالة طبيعية عند الفرد لا يمكن استئصالها.
وفي الأخير وإذا أردنا الخروج بحوصلة فإن الهيجان من الناحية السيكولوجية
ينزل بنا إلى ما دون الحياة الحيوانية ومن ناحية الوجود الإنساني يطلعنا
على حقيقتنا ففي الضعف قوة أو بمعنى أصح الهيجان فرصة تجعلنا نطل على معنى
الشخص ومنزلته في الوجود فبدون الإحساسات الوجدانية والانفعالية المختلفة
تكون حياتنا بمثابة الجماد الذي لا يحس.
الطريقة:جدلية. الدرس:الشخصية1.
الإشكال:يقال<إن الشخصية تكتسب>هل تعتبر هذا القول صحيحا؟
لما كان الإنسان ميالاً بالطبع إلى الحياة مع أمثاله فليس من الغريب أن
يكون سلوكه مشبعا بالمكتسبات الاجتماعية مثقلاً بخيرات السنين فهو يكتسب
اللغة والأخلاق والعلم و ينمي ملكاته العقلية وبالرغم من أنه وحيد في نوعه
وفرد يتميز بالتميز في شخصيته و المقصود بالشخصية هو باختصار الوحدة
الكلية والحركية المميزة لسلوك فرد ما شاعر بتميزه عن الغير ولكن السؤال
المطروح:هل الشعور بهذا التميز هو من معطيات الولادة أم أنه نتيجة تطور
تدريجي؟،أو بكلمة وجيزة هل الشخصية تكتسب؟.
ترى المدرسة الاجتماعية أن الإنسان عجينة في يد المجتمع يشكلها كيفما يشاء
فالفرد مرآة عاكسة للمجتمع وفي هذا يقول هربرتالطفل صفحة بيضاء يكتب عليها
المربي ما يشاء)،كذلك نجد الغزالي يقولالطفل كالعجين يستطيع المربي أن
يكونه كما يشاء)،والشخصية لا تنشأ أو تتشكل دفعة واحدة بل تنشأ بالتدرج
يقول ألبورت(لا يولد الطفل بشخصية كاملة بل يبدأ بتكوينها منذ
الولادة)،وأيضا يقول فالونإن الشعور بالذات ليس أمراً أوليا بل محصول تطور
بعيد لا تبدأ نتائجه بالظهور قبل السنة الثالثة) فالشخصية في تكوينها تمر
بمراحل تعد الأساس في تكوينها هي مرحلة اللاتمايز والشعور بالأنا.والإنسان
بطبعه اجتماعي كما يقول بن خلدونالناس على دين ملكوهم)،ودوركايم الذي
يقولإذا تكلم الضمير فينا فما هو إلا صدى المجتمع)،فهو يتعلم،يكتسب ويتأثر
بالعادات والتقاليد والنظم و القوانين(القوالب الاجتماعية) فاللغة هي
وسيلة للاندماج والتكيف وكحتمية فإن الحياة الاجتماعية تفرض نمطا سلوكيا
معينا على الفرد فهو خاضع لمعايير اجتماعية وفي هذا المعنى يقول فالون(إن
الشعور بالذات يتكون بواسطة الآخرين وعلى الرغم من أنهم أسباب للشعور
بالشخصية لكنهم أيضا عقبات يجب تجاوزها حتى يتم كامل الشخصية)،وقد استدل
أصحاب هذا الاتجاه بأدلة وحقائق تدعم هذا الموقف ويذكرون على سبيل المثال
حالة التوأم فلو فصلنا توأمين وأخذنا أحدهما للعيش في مجتمع مختلف عن
الثاني فالاختلاف سوف يكون كبيراً(السلوك والمظاهر الفيزيولوجية) والتي
تبحث عن طريقة كل منهما في التكيف مع مجتمعه رغم اشتراكهما في الخصائص
الوراثية،كذلك حالة إبراز المواهب فكل فرد مزود باستعدادات فطرية ومواهب
ذاتية تظل راكدة إذا لم تجد الشروط الاجتماعية الملائمة بالإضافة إلى بعض
الخصائص التي لها ارتباط وثيق بالمجتمع.
لا ريب أن للمجتمع فضلا ودوراً كبيرا إلا أن متطلبات المجتمع لا تنسجم مع
مقاصد الشخصية،لذا فالشخصية التي تقبل ضغط الأوضاع الاجتماعية ما هي إلا
شخصية قاعدية كما يقول كاردينارأي شخصية سطحية مستعارة)،كذلك إن تأثير
المجتمع في الإنسان متوقف على مدى قابلية الإنسان،فهو ليس عجينة أو كتلة
عضوية حركية فهو يحمل عقلا يسمح له أن يختار ويتخذ من أنظمة المجتمع ما
يتلاءم معه ويتوافق مع تفكيره.
ونظراً لما للوراثة من أهمية ذهب العلماء إلى اعتبار الخصائص الوراثية
ملامح حقيقية للشخصية ومعنى هذا أن الشخصية تكتسب في حدود معطيات وراثية
وما يثبت ذلك في اعتقادهم أن ثمة أطفالاً يولدون أذكياء في حين أن آخرين
أغبياء والسبب في ذلك راجع إلى عوامل وراثية،ولقد تقرر لدى الباحثين في
مجال الوراثة خاصة مندل ذلك أن المزاج ينتقل من الآباء إلى الأبناء وأن
الاستعدادات التي يرثها الطفل ليست استعدادات وسطية حيث تنصهر خصائص كل من
الأب والأم،ذلك أن خصائص كل من الأبوين تبقى متمايزة عن طريق كل من الأم
فقط أو الأب فقط،على أن ما يرثه الطفل ليس تلك الخصائص التي تعلمها أبويه
في حياتهم وإنما تلك القدرات الفيزيولوجية من لون البشرة ولون الشعر،فيما
يتعلق بالتركيبة الفيزيولوجية الداخلية لها تأثير كبير في الطبع بول أحد
الفيزيولوجيينإننا تحت رحمة غددنا الصماء)،وهو قول يؤيد ما ثبت لدى
العلماء من ضعف أو كثرة الإفرازات الغددية الداخلية تفقد الجسم توازنه مما
يجعل الشخصية في حالة غير مستقرة،فبالنسبة للغدة الدرقية التي قال عنها
هوسكيترإننا ندين لغددنا الصماء بجزء غير يسير مما نحن عليه)،إن لها تأثير
على النمو والعمليات الحيوية فإذا زاد إفرازها نشأ عن ذلك نشاط محسوس في
الجهاز العصبي وغيره من الأجهزة وقد ينشأ عنه القلق والاضطراب أما إذا نقص
إفرازها نشا عن ذلك ضعف عقلي وتباطؤ في الأعمال،أما الغدة النخامية
فلإفرازاتها صلة وثيقة بالنمو الجسمي العام فإذا نقص إفرازها عند الطفولة
أدى ذلك إلى القزامة،والعملقة وخشونة الجلد والنضج الجنسي المبكر إذا حدث
العكس،أما الغدة الإندريانية فزيادة إفرازها تؤدي إلى تضخم خصائص الذكورة
عند الرجال وتغلبها عند المرأة مما يؤدي إلى بروز علامات الذكورة
عندها(الصوت الغليظ،بروز شعر اللحية...)،ولدى الطفل تؤدي إلى تكبير النضج
الجنسي وأخيراً الجملة المسؤولة عن التحكم في كل نشاط الجسم وأي اضطراب في
هذه الجملة يؤدي إلى الخلل في السلوك وعدم الاتزان في الشخصية وليس من
الغريب إذا اتخذ القدماء التركيب الجسمي أساساً لسلوك الناس وطباعهم يقول
أرسطوعن الأنوف أن الغليظة والدسمة والأطراف تدل على أشخاص باردي الأجسام
ذوي ميول شهوانية،وإن الجادة مثل الكلاب تدل على الغضوبين السريعي
الاهتياج،وأن المستديرة العريضة مثل الأسد تدل على أصحاب الشهامة وأن
الرقيق المعقوفة مثل النسر تدل على النبلاء المختالين المترفين
المتعجرفين).
على الرغم من كل هذه الحجج والبراهين التي ترجع الشخصية إلى الوراثة إلا
أنه لا يمكننا أن نقر إقراراً مطلقاً بدورها في بناء الشخصية وهذا ما
يؤكده الواقع وذلك لأن هناك اختلافات كبيرة في سلوك الأفراد رغم تشابههم
من حيث النشأة البيئية مثل أفراد الأسرة الواحدة كذلك أن نشاط الغدد لا
يتحدد بالوراثة وحدها بل يتأثر بالمواقف الانفعالية الحادة.
إن كل المحاولات التي قام بها جمهور الفلاسفة والعلماء والمفكرين أخفقت في
الوقوف على النظرة الحقيقية للشخصية و قضية حصول الشخص عليها ذلك أنهم
قاموا بتجزيء الوراثة عن العوامل البيئية والمجتمع في حين أن الأخيرين
يستطيع الفرد أن يقومهما ويهذبهما عن طريق التربية،و يشهد على صحة ذلك
تاريخ بعض الشخصيات البارزة وما سعت إليه،فلقد قيل قديما عن العالم
الفيزيائي فاردي أنه كان طائشا سريع الانفعال لكنه روض نفسه،كذلك نجد
الدين الإسلامي سبّق دور التربية ويتجلى ذلك في قول الرسول صلى الله عليه
وسلمكل مولود يولد على الفطرة فأبوه إما يمجسانه أو يهودانه أو
ينصرانه)،بالإضافة إلى عدم ناسي دور الوعي بمعنى الإرادة والعقل يقول
غيوميغير اتزان الطبع ويخرج إلى الوجود قوى جديدة)،ولهذا لا نستطيع تسخير
إمكانياتنا الملائمة إلاّ إذا سعينا وراء الشخص الذي نمثله.
وخلاصة القول أن اكتساب الشخصية لا يحدده مجرد التقاء المعطيات الفطرية
بالشروط الثقافية وإنما يتوقف على الكيفية التي تستخدمهـا في التركيب وقد
صدق من قال لا أحد يستطيع أن يكون ما يريد ولكنه لا يصنع إلا ما يستطيع).
الطريقة:جدلية. الدرس: الشخصية2.
الإشكال:هل يستطيع الإنسان أن يكتسب الشخصية التي يتمثلها؟.
تعتبر الشخصية من مسائل علم النفس الأكثر تعقيداً بسبب تداخل عوامل بنائها
التي نتج عنها اختلاف في وجهات النظر حول الأهمية التي يحظى بها كل واحد
من تلك العوامل في تكوين الشخصية،وقد اختلف الفلاسفة في كيفية تكوين
الشخصية لاختلاف مناهجهم فمنهم من قال أن الفرد يولد بكيان عضوي يحمل من
الأسلاف صفات تظل تلازمه وهي سمات طبيعية وراثية ،ومنهم من قال أن الفرد
يكتسبها من المجتمع ولكن رغم هذه الآراء ألا يمكن للفرد أن يكتسب الشخصية
التي يتمثلها في ذهنه؟أم أنه هناك عوائق تحد من ذلك؟.
يرى بعض المفكرين من الاتجاه الحدسي والاتجاه العقلاني أن ما يكسبه الفرد
من صفات نابع من إرادته ورغبته فهو يشكل شخصيته عن قراراته التي يتخذها
بإرادته الحرة وهذا ما ذهب إليه الوجوديين وعلى رأسهم جون بول سارتر حين
قال أنا أختار نفسي)،حيث يرى هذا الأخير أن الإنسان يولد ثم يختار مصيره
ويعتمد في نظريته ـ الوجود سابق للجوهر أو الماهية ـ أو بمعنى أصح أن
الكيان المادي للإنسان يوجد أولاً ثم يختار مصيره بنفسه [الإضافة إلى كل
هذا فكل فرد تصوراته العقلية ولكل فرد ولكل فرد قدراته التي تجعله على
اكتساب ما يريد من صفات فالعقل يتصور النموذج الذي الفرد إلى تحقيقه وبذلك
يضع هويته كما يريد فبالإرادة نستطيع أن نخلق أن صنع المعجزات ونكتسب
شخصيتنا الحقيقية رغم ما للشروط الطبيعية والاجتماعية من وزن،فليست طباعنا
هي التي تحدد سلوكنا ومصيرنا وإنما يتوقف الأمر على درجة وعينا
لإمكانياتنا وقوة أو ضعف عزائمنا وحق كما قيللا أحد يستطيع أن يكون ما
يريد ولكنه لا يصنع إلا ما يستطيع)،وقد شهد التاريخ البشري العديد من هذه
النماذج البارزة وما سعت إليه لتحقيق وجودها فلقد قيل قديما عن العالم
الفيزيائي فاردي أنه كان طائشا سريع الانفعال لكنه روض نفسه، وحتى ينجح
المرء في اكتساب شخصية عميقة بمعنى الكلمة بعيدة عن التقليد لابد قبل كل
شيء أن تكون له رغبة في القيام بهذه المهمة وأن يؤمن من كل أعماقه
بإمكانية تحقيقها فلقد قيلاثنان يصنعان العجائب رجل يريد ورجل يهوى)،ولابد
أن يكون ذا دواعي لأن الدواعي تغير اتزان الطبع وتقر للوجود قوى بديلة.
إذن بالإرادة يستطيع الإنسان أن يصنع من نفسه ما يريد والنموذج الذي
يجب،ولكننا لا نستطيع تسخير إمكانياتنا الملائمة إلا إذا سعينا وراء تحقيق
الشخص الذي نتمثله.
إلاّ أن القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أن هذه التصورات العقلية لا
يكتسبها الفرد بعيدا عن المعطيات الاجتماعية والبيئية فالإرادة التي يتكلم
عنها هؤلاء لا تخرج عن كونها إرادة جماعية خاصة بمعايير و أطر يفرضها
المجتمع على أفراده ولكل خروج عن هذه الإرادة مآلة الفشل كما أن الفرد
مرهون بمعطيات وراثية بالإضافة إلى كل هذا فإن دور القرارات الإرادية
محدود أمام العوامل السالفة الذكر.
وعلى عكس الرأي الأول نجد المدرسة الاجتماعية التي ترى أن الإنسان مرهون
ومربوط بحتميات لا يمكنه الخروج عنها و باعتبار أن المجتمع هو المكان
الوحيد لبروز الشخصية وتكاملها فإن الإنسان في نظرهم عجينة في يد المجتمع
وفي هذا يقول هربرتالطفل صفحة بيضاء يكتب عليها المربي ما يشاء)، كذلك نجد
الغزالي يقولالطفل كالعجين يستطيع المربي أن يكونه كما يشاء)،والشخصية لا
تنشأ أو تتشكل دفعة واحدة بل تنشأ بالتدرج يقول ألبورت(لا يولد الطفل
بشخصية كاملة بل يبدأ بتكوينها منذ الولادة)،وأيضا يقول فالونإن الشعور
بالذات ليس أمراً أوليا بل محصول تطور بعيد لا تبدأ نتائجه بالظهور قبل
السنة الثالثة) فالشخصية في تكوينها تمر بمراحل تعد الأساس في تكوينها هي
مرحلة اللاتمايز والشعور بالأنا.والإنسان بطبعه اجتماعي كما يقول بن
خلدونالناس على دين ملكوهم)،ودوركايم الذي يقولإذا تكلم الضمير فينا فما
هو إلا صدى المجتمع)،فهو يتعلم،يكتسب ويتأثر بالعادات والتقاليد والنظم و
القوانين(القوالب الاجتماعية) فاللغة هي وسيلة للاندماج والتكيف وكحتمية
فإن الحياة الاجتماعية تفرض نمطا سلوكيا معينا على الفرد فهو خاضع لمعايير
اجتماعية وفي هذا المعنى يقول فالون(إن الشعور بالذات يتكون بواسطة
الآخرين وعلى الرغم من أنهم أسباب للشعور بالشخصية لكنهم أيضا عقبات يجب
تجاوزها حتى يتم كامل الشخصية)،ونجد من الفلاسفة من ذهب على شاكلة هذا
الطرح ومن بينهم هالفاكس الذي يقولإن الشخصية هي حصيلة الحياة
الاجتماعية)،و يقول سبينزاأعطني دما ولحما وعظما – جنينا-أعطيك ما
تريد)،وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة وحقائق تدعم هذا الموقف فلو فصلنا
توأمين وأخذنا أحدهما للعيش في مجتمع مختلف عن الثاني فالاختلاف سوف يكون
كبيراً(السلوك والمظاهر الفيزيولوجية) والتي تبحث عن طريقة كل منهما في
التكيف مع مجتمعه رغم اشتراكها في الخصائص الوراثية،كذلك حالة إبراز
المواهب فكل فرد مزود باستعدادات فطرية ومواهب ذاتية تظل راكدة إذا لم تجد
الشروط الاجتماعية الملائمة بالإضافة إلى بعض الخصائص النفسية مثل الشجاعة
والكرم والبخل...
لا ريب أن للمجتمع فضلاً ودوراً بارزاً في تكوين الشخصية إلا أن متطلبات
المجتمع لا تنسجم مع مقاصد الشخصية،فالشخصية التي تقبل ضغط الأوضاع
الاجتماعية ما هي إلاّ شخصية قاعدية كما يقول كاردينارأي شخصية سطحية
مستعارة)،كذلك إن تأثير المجتمع في الإنسان متوقف على مدى قابلية الإنسان
فهو ليس عجينة أو كتلة عضوية حركية فهو يحمل عقلاً يسمح له أن يختار أو
يتخذ من أنظمة المجتمع ما يتلاءم مع معه و يوافق تفكيره.
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتين هو أنهما طرحتا مشكلة الشخصية على
جانب واحد وذلك لاختلاف مناهجهم إلاّ أن شخصية الفرد لا يمكن أن تتكون
إلاّ من جانب إنساني وذلك من خلال المجتمع بالإضافة إلى كل هذا فإن
الإرادة تلعب دوراً بارزاً وأساسياً مع هذه التفاعلات لا يمكننا أن ننسى
دور الجانب الفطري الوراثي الذي يطبع الشخصية بطابعه المميز.
وفي الأخير وكحوصلة لما سبق فإن الفرد يكتسب الشخصية السي يريدها وفي إطار
الحتميات الحسية والنفسية والاجتماعية وبهذا يمكن للشخص أن يوجد الشخصية
التي يتمثلها في ذهنه إذا لم تتعارض مع الواقع فقد صدق من قاللا أحد
يستطيع أن يكون ما يريد لكنه لا يصنع إلا ما يريد).
الطريقة:جدلية. الدرس: الحرية والتحرر.
الإشكال: هل الإنســان حر؟.
إن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضا والتباساً فالشعوب تكافح من أجل
حريتها والأفراد لا يتحملون أي حجز على حريتهم الشخصية ومما لاشك فيه أن
الحرية هي من أقدم المشكلات الفلسفية وأعقدها فقد واجهت الباحثين من قديم
الزمان وما زالت تواجههم إلى يومنا هذا فهي من أكثر المبادئ الفلسفية
اتصالاً بنا بعد الطبيعة فضلاً عن صلتها بالأخلاق والسياسة والاجتماع وقد
تناول العديد من الفلاسفة والمفكرين هذا المبحث فمنذ وعي الإنسان لنفسه
سعى إلى تحقيق حريته بشتى الوسائل والطرق ولكن جمهور الفلاسفة اختلف في
الإشكالية التالية:هل الإنسان حر أم أن هناك قيود وعوائق تقييد حريته؟.
يرى بعض الفلاسفة الذين يقرون بأن الإنسان حر وهم يستندون في هذا إلى عدة
حجج أهمها الحجة النفسية و الذين يرون بأن الشعور بالحرية دليل كاف على
إثباتها فمثلاً ويليام جيمس يرى أن الحرية هي قوام الوجود الإنساني الذي
مراده الإدارة الحرة الفعالة فلا نشعر بحريتنا إلاّ ونحن قادرون فعلاً على
الفعل والتأثير أما ديكارت فيقولإننا لا نختبر حرية إلاّ عن طريق شعورنا
المباشر)،فهو يرى أننا ندرك الحرية بلا برهان وهو يقول في هذاإننا واثقون
من حريقا لأننا ندركها إدراكاً مباشراً فلا نحتاج إلى برهان بل نحدسها
حدساً)،بحيث يرى أن إحساس الإنسان الداخلي بالحرية *الواضح والمتميز* دليل
كاف على ذلك ويقول لوسينكلما في نفسي عن القوة التي تقيدني كلما أشعر أنه
ليست لي أية قوة عدا إرادتي ومن هنا أشعر شعورا واضحا بحريتي)،أما من
الفرق الإسلامية التي تثبت ذلك فالمعتزلة يرون أن تجربة الشعور الداخلية
كافية على أننا أحرار يقول الشهر الستانيالإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل
فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن)،ومعناه أن الأفعال التي يقوم
بها إنما يمارسها بإرادته وحسب الظروف التي تلائمه بالإضافة إلى هذا نجد
برغسون الذي يميز بين مستويين من الأنا فالأنا السطحي بالنسبة له يمثل
ردود الفعل و الاستجابات العفوية والعادات التي يقوم بها الإنسان تحت
تأثير العوامل الخارجية،أما الأنا العميق فهو مصدر الحرية الحقيقي الذي
تشعر به عندما نلتزم بإرادتنا واختيار بعيد عن الحتميات لذا نجسد حريتنا
بعيدا عندما نقف من أنفسنا مواقف نقد وتقييم واعية وبهذه الصورة الواعية
تسمع صدى الحرية الهافت الذي يسري كديمومة مفصلة لا تتوقف،أما أصحاب الحجة
الاجتماعية فهم يرون أن الحرية ممارسة فعلية تتجسد في الحياة الاجتماعية
فالآخر هو سبب وجودها ويمكن أن يكون عائقا لها فبدون المجتمع لا يمكن أن
توجد قوانين عادلة تحمي الحريات الفردية فتصبح الحرية مسؤولية لذا فإن كل
المجتمعات تعاقب أفرادها عند مخالفة قوانينها ولا تعاقب الأفعال التي لا
قدرة لهم عليها وهذا يعني قدرة الإنسان على الاختيار و بهذا يمكن التكلم
عن شخصية بدون مقومات اجتماعية ولا الحديث عن حرية الإنسان المغترب يقول
مونيكوالحرية الفعل وفق ما تجيزه القوانين الاجتماعية)،فبدون المجتمع لا
يمكن أن نتحدث عن المسؤولية بدون حرية الاختيار،أما أصحاب الحجة الأخلاقية
فهي حسب كانط أساس تأسيس أو تحديد الأخلاق فالواجب الأخلاقي يتطلب قدرة
للقيام به يقول كانطإذا كان يجب عليك فأنت تستطيع)،ويقولإن إرادة الكائن
العاقل لا يمكن أن تكون إرادته إلا تحت فكر الحرية)،أما أصحاب الحجة
الميتافيزيقية فروادها المعتزلة وهم يرون أن الإنسان حر ويوردون حججاً من
القرآن الكريم تنسب إلى الإنسان حريته في اختيار أفعاله يقول الله
تعالىفمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)،وقوله تعالىفمن يعمل مثقال ذرة خيراً
يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)،فهو بذلك أو ذاك حر مخير،واعتمدوا أيضاً
على مبدأ التكيف يقول الله تعالىلا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها)،فالتكيف
يكون هنا سفها إذا كان(اعمل يا من لا قدرة له على العمل)،ولكن بصيغة(اعمل
يا من تستطيع أن تعمل)،وبالتالي إمكانية صدور الفعل أو عدمه فهو الاختيار
وما يبرز هذا هو الثواب والعقاب والجنة والنار فالله لا يحاسبنا على
الأفعال التي لا نكون مسئولين عنها يقول تعالىوما ربك بظلام للعبيد)،ولا
معنى للثواب وللعقاب إذا كان المرء مجبراً مكرهاً.
لكن رغم هذه الأدلة والبراهين لم يصمد هذا الرأي للنقد ذلك أنه ما من شك
غير كاف كذلك أنه يمكن أن يكون وهما وخداعا لأننا نقوم بأعمال معينة مع
شعورنا بحريتنا إلاّ أننا مقيدون بعدة أسباب كذلك أن البرهان الاجتماعي
نائم على الشعور بالحرية أثناء عقد القوانين وقيام الأنظمة الاجتماعية
فالشعور يكفي للتدليل بها فهو يثبتها كما يثبت الحتمية ولا معنى للقانون
والنظام ما لم يعمل به أصحابه وشروطه،أما أصحاب الحجة الأخلاقية فهي قائمة
على التسليم بالحرية حتى لا تتهدم وفكرة التسليم لا تكفي للبرهنة عليها
لأننا نستطيع التسليم بعدم وجودها كما سلمنا بوجودها أما بحث المعتزلة فقد
باء منصبا أكثر على الإنسان المثالي المجرد المتصور عقلاً لذلك وضع الحرية
في زمن الفعل في حين أن مشكلة حرية الإنسان الواقعي ومطروحة على مستوى
الفعل و مواقف الحياة التي تواجهها واعتمادهم على آيات هذا صحيح.
وعلى عكس الرأي السابق نجد من ينفي الحرية فهم يعتبرون الحرية وهماً لا
يمكن تحقيقه وإن وجدت فوجودها ميتافيزيقي لا علاقة له بحياة الأفراد وذاك
لما يقيدهم من حتميات داخلية وخارجية،فأصحاب الحتمية النفسية ومن بينهم
المدرسة السلوكية الأمريكية وعلى رأسها والن يرون أن السلوك عبارة عن
الاستجابات التي تتحكم فيها منبهات داخلية وخارجية كالرغبات والميولات
والدوافع الفطرية والعوامل الخارجية التي تشكل مصدراً هاماً لأفعالنا،أما
مدرسة التحليل النفسي فتفسر السلوك بدوافع لا شعورية أساسها الكبت يقول
نتشهإن إرادة تجاوز ميل ما ليست إلا إرادة آدميون أخرى)،ويقول أحد
الفلاسفةكل قرار هو مأساة تتضمن التضحية برغبة على مدرج رغبة أخرى)،أما
أصحاب الحتمية البيولوجية ونقصد به مبدأ العلمية القائل انه إذا توفرت نفس
الأسباب فستؤدي إلى نفس النتائج ومن ثم توسيع هذا المبدأ على الإنسان
باعتباره جزءا من الطبيعة فهو حامل منذ ولادته لمعطيات وراثية وخصائص
ثابتة والطبع في رأيهم تحديد فطري و البنية البيولوجية تنمو وتتكامل حسب
قانون معين فهو يخضع لجملة من القوانين حيث نجد الروانيون وكذلك بيسنوزا
الذي يقولإن الحرية لا تكون إلا حيث نكون مقيدين لا بعامل القوى والضغوط
ولكن بعوامل الدوافع والمبررات العقلية...وعندما نجهل دوافع تصرفنا فنحن
على يقين بأننا لم نتصرف تصرفا حراً)،أما أصحاب الحتمية الاجتماعية فهم
يؤكدون أن الإنسان مجرد فرد يخضع للجماعة كالعجينة يشكله المجتمع كما يريد
وذلك عن طريق التربية والتعليم والتجارب الاجتماعية فلا وجود للحرية
الفردية داخل الحتميات الاجتماعية *ثقافية،اقتصادية* والتي لا يمكنه أن
يغير فيها مهما حاول ذلك يقول بن خلدونالناس على دين ملوكهم)،ويقول
دوركايمإذا تكلم الضمير فما هو إلا صدى المجتمع)،ويقول أيضاًلست مجبراً
على استخدام اللغة الفرنسية لكن لا أستطيع التكلم إلا بها ولو حاولت
التخلص من هذه الضرورة لباءت محاولتي بالفشل)،أما أصحاب الحجة
الميتافيزيقية فنسبهم إلى جهم بن صفوانلا فعل لأحد في الحقيقة إلاّ لله
وحده وإنه هو الفاعل و أن الناس دائماً تنسب إليهم أعمالهم على المجاز كان
يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما يفعل ذلك بالشجرة والشمس
و الفلك الله سبحانه وتعالى)،ويقول أيضاًلا قدرة للعبد أصلاً لا مؤثرة ولا
كابسة بل هو بمنزلة الجماد فيما يوجد منها)، إن هذا الرأي عندهم مبني على
أصل عقائدي هو أن الله مطلق القدرة خلق العبد وأفعاله هو يعلمها قبل
صدورها من العبد بعلمه المطلق ،بالإضافة إلى هذا نجد لايبنتز الذي يرى أن
الإنسان عبارة عن جوهر روماني سماه المنادة يستمد كل مقوماته من ذاته التي
أعدت بكيفية آلية مسبقة مثل الساعة،ولما كان الخير والشر مقدر على الإنسان
في طبيعته تركيب روحي فهل بقي ما نسميه اختيار يقول لايبنتزالله مصدر جميع
أفعال الإنسان بخيرها وشرها وكل شيء مسطر في سجل الكون الأبدي)،أما أنصار
الحتمية الطبيعية فقد اعتبروا أن سلوك الإنسان متدرج فمن سلسلة الحوادث
الطبيعية كونه كائن حي كبقية الكائنات الحية وعلى أساس أن الظواهر
الطبيعية تخضع لقوانين وحتميات فيزيائية وكيميائية وتؤدي في نفس الوقت إلى
نفس النتائج فسلوك الإنسان باعتباره جزءاً منها يخضع لهذه الحتمية حيث يرى
بيسنوزا أن الشعور بالحرية ليس وهماً راجع إلى جهلنا بالحتميات كالحجر
الساقط يتوهم أنه حر لو كان له شعور لكنه في الواقع خاضع لقانون الجاذبية
يقول بيسنوزاإن الناس يخدعون أنفسهم بأنهم أحرار لكنهم في الحقيقة يحملون
الأسباب الحقيقية التي تحدد سلوكهم)،ويرى البعض أن فعل الإنسان ليس
تعبيراً عن الباحث الأقوى يقول لايبنتزالإرادة إذ نختار تميل مع إحدى
القوى أو البواعث أثر في النفس كما تميل إبرة الميزان إلى جهة الثقل).
إن هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد فبالنسبة للحتمية النفسية فإن
الإنسان ليس مجرد حزمة من الغرائز والدوافع فهو قادر على التحكم فيها كما
هو ملاحظ في الواقع وبإمكانه تنظيمها وفق نتائج مرغوبة ومقصودة وبدون هذه
الرغبات والعادات يصبح لا معنى لأفعالنا فالحرية رغبة وميل ينبثق من كل
إنسان أما الحتمية البيولوجية فالإنسان ليس جسما ولا شيئاً من أشياء
الطبيعة ولا يرجع سلوكاته إلى التغيرات الفيزيولوجية وحدها فهو قادر على
التحكم في سلوكه وطبعه ولا يمكن التنبؤ بمستقبل سلوكه أما بالنسبة للحتمية
الاجتماعية فالإنسان ليس مجرد عجينة في يد المجتمع فهناك مجالات واسعة
بوجودها المجتمع الفرد كي يتمكن من الاختيار الحر لحرية مضمونة في
القوانين الاجتماعية ولا قيمة لها خارج المجتمع ونلاحظ أن بعض العلماء
والزعماء من أثروا في المجتمع ودفعوه إلى التغيير وليس العكس،أما بالنسبة
للحتمية الميتافيزيقية فإن دعواهم أمر مظلل فهي أساس دعوة للكسل والخمول
مع وظيفة الإنسان في الكون فهو مخير لا مسير وهذا استناداً لقوله تعالىلا
يغير الله ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم)،أما الحتمية الطبيعية فإن علاقة
الإنسان بالطبيعة ليست علاقة تبعية بل بالعكس علاقة جدلية يؤثر فيها
ويتأثر بها ويتخذ فيها الأسباب الأساسية لحياته ومن إمكانياتها مصدر تنافس
وتفاوت بينه وبين الأفراد كذلك أن الفعل الحر لا ينفي السببية لأنه هو
نفسه معول بعلة الإنسان.
إن هذه الآراء وجميع الحجج والأدلة المعتمدة لنفي الحرية باسم الحتمية أو
إثبات الحرية عن طريق ما نعيشه أو على أساس قوى مفارقة للطبيعة لا يمكن أن
تكون كافية، ذلك أن الحتمية لا تنفي الحرية إلاّ ظاهرياً أما جوهرها فهو
أساس الحرية وشرط من شروط الحرية الحقة وفي هذا يقول أحد الفلاسفةلا علم
بلا حتمية ولا حرية بدون علم إذن لا حرية بدون حتمية)،فلا تحرر إلاّ
بمعرفة الحتميات والعراقيل وفي هذا يقول مونيإن كل حتمية جديدة يكتشفها
العالم تعد نوطة تزداد إلى سلم أنغام حريتنا).
وخلاصة القول فإننا نصل إلى نتيجة هي أنه لا يوجد تعارض بين الحرية
والحتمية فلولا وجود هذه الحتميات ما كان للحرية معنى لما ثقفه الإنسان
عبر التاريخ لنفسه وبني جنسه فالحتمية أساس وشرط ضروري لتحقيق الحرية.