منتدى طلبة سيدي بلعباس لكل الجزائريين والعرب

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


2 مشترك

    أزمة الهوية الثقافية في عصر العولمة: رؤية أنثروبولوجية

    avatar
    HALIMHARD
    ๑ღ๑ مشرف قسم العلوم الإجتماعية والإنسانية ๑ღ๑
    ๑ღ๑ مشرف قسم العلوم الإجتماعية والإنسانية ๑ღ๑


    عدَد مشآرڪآتے• : 32
    نْـقٌـآطُـيَـے• : 82
    تقييےـم الأَعْضآء لكـَ • : 1
    تخصُصِے الدرآسے• : دكتور في علم اجتماع التنمية ومتحصل على ماجستير العلوم السياسية والدراسات الدولية
    مْــزًاآجٍـے• : جيد
    مدًينتِيـے• : الامل
    عآـمْے بلدِيْے • : الجزائر
    sms : دكتور في علم اجتماع التنمية ومتحصل على ماجستير العلوم السياسية والدراسات الدولية
    أزمة الهوية الثقافية في عصر العولمة: رؤية أنثروبولوجية Hhhop10

    زهرة أزمة الهوية الثقافية في عصر العولمة: رؤية أنثروبولوجية

    مُساهمة من طرف HALIMHARD 2010-03-30, 05:37

    ملخص البحث.تعالج هذه الدراسة في جزئها الأول التأثير الثقافي لعملية العولمة، وعلاقته بالهويات الثقافية للشعوب غير الغربية، والتي تثور لديها التساؤلات والمخاوف من هذا التأثير. فالاتجاهات تتضارب داخل دول العالم الثالث بوجه خاص بين من يؤيد الإسهام بفاعلية في هذه التطورات العالمية الجديدة، وبين من يتخوف من أن الميزان الحالي للقوى في العالم سوف يوجه الاقتصاد والسياسة والثقافة لصالح الغرب، وعلى حساب هذه الدول، وبالتالي لن يوجد تنوع ثقافي بين الأطراف المشاركة في عملية العولمة، وإنما هيمنة من جانب الطرف الأقوى، ومحاولات مستمرة لفرض شخصيته على الآخرين.

    وفي الجزء الثاني من الدراسة تقدم الأنثروبولوجيا صورة لعلاقة الغرب مع "الآخر،" من بدء نشأتها مع حركة الاستعمار الغربي، وتطور هذه العلاقة من الهيمنة والاستعلاء الثقافي على الشعوب غير الغربية، إلى الاعتراف بالهويات الثقافية لها، وخاصة مع نشاط أبنائها في دراسة مجتمعاتهم بصورة علمية منصفة، وحتى تأكد الغرب من أن الحضارة الإنسانية تزداد ثراء من خلال التنوع الثقافي، ووجود تفاعل متواصل بين أساليب الحياة والتفكير الغرية وغير الغربية.


    115


    هذه النتيجة الأخيرة التي تحققت علميا في المجال الأنثروبولوجي، من الممكن أن تكون هي الحل التاريخي المتوقع لأزمة الهوية الثقافية في عصر العولمة، مع تحقق الشرط الضروري لذلك، وهو الإسهام الإيجابي للدول النامية في التطورات الحديثة، لتأكيد إمكان التفاعل بين المحلية والعالمية، بعد أن أصبحت العولمة واقعا لا مفر من مواجهة مظاهره وآثاره، في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية.


    مقدمـة



    للعولمة أبعاد عدة أبرزها في رأي الكثيرين ما يتصل بالنشاط الاقتصادي، ولكن بعض الباحثين([1]) يرى أن التأثير الثقافي لها لا يقل أهمية عن هذا النشاط إن لم يزد عليه، ويرجع ذلك إلى أن هذا التأثير لا يتصل بالأسواق وحركة المال، وإنما يتصل بكيان الأمم وهوياتها.

    وتعالج الدراسة الحالية هذا الجانب من تأثيرات العولمة على أساس أنه يثير كثيرا من التساؤلات، بل والمخاوف ليس فقط لدى الدول النامية، وإنما لدى الدول المتقدمة صناعيا أيضا، ويرد البعض هذه المخاوف لدى دول العالم الثالث بصفة خاصة إلى خبراتها خلال عهود القهر والاحتلال، وإلى اعتقادها بأن الميزان الحالي للقوى في العالم يتحكم في توجيه الاقتصاد والسياسة والثقافة لصالح الغرب تحت غطاء العولمة والقرية الكونية الواحدة، في حين يرى البعض الآخر أن هذه المخاوف ذاتها لا ينبغي أن تصبح سببا للهروب من المواجهة والمشاركة، وإنما حافزا للإسهام بفاعلية في هذه التطورات الجديدة في مختلف الميادين، والاستفادة من إمكانات التكنولوجيا في تأكيد الهوية وتحصينها.

    وإذا تغاضينا عن المظاهر التفصيلية للمواقف المختلفة ، نجد أنها جميعا تعبر عن الرغبة في التوصل إلى إجابة عن تساؤل مؤداه: إذا كان الغرب يمثل "الأنا" في لعبة العولمة فكيف يحمي "الآخر" نفسه حتى يشارك في اللعبة ولا يطرد خارج الملعب؟ وبمعنى آخر هل يمكن أن تتواصل اللعبة على أساس التنوع بين الأطراف المشاركة، أم أن الغرض منها تحقيق الهيمنة لطرف معين يكون من حقه فرض سيطرته بل وشخصيته على الآخرين؟

    هذا هو الجزء الأول من الدارسة؛ أما الثاني، فيتمثل في محاولة أنثروبولوجية للمساهمة في إيجاد الإجابة المناسبة فيما يتصل بالبعد الثقافي من العولمة بصفة خاصة، لأن تاريخ الأنثروبولوجيا في حقيقة الأمر عبارة عن تصوير للمراحل والمواقف التي حدثت بين الغرب وبين الشعوب غير الغربية، وهي مراحل متفاوتة، بل ومتناقضة أحيانا، بدأت بتجاهل الهويات الثقافية لهذه الشعوب، ومعاملتها كمستودعات لكل ما هو غريب ومخالف من العادات والأنماط السلوكية، أو كدرجات أولية في سلم الترقي نحو حضارة الغرب، ثم اكتشاف أن لهذه الهويات مكوّنات لا تقل تعقيدا عن غيرها، وأنها تحقق من التكامل بين عناصرها ما يكفل لها الاستمرار والتقدم. ومن ثم تم الاعتراف بمبدأ التنوع الثقافي، وبأن لكل شعب خصوصيته الثقافية، فلا مجال للأحكام القديمة عن الرقي والتخلف، وإنما محاولات لفهم ومتابعة ما يجري بين الثقافات الغربية وغير الغربية من احتكاك وتفاعل.

    وجاءت بعد ذلك مرحلة اعترف فيها الباحثون الغربيون بأن الأنثروبولوجيين من أبناء العالم الثالث أقدر من غيرهم على فهم الأبعاد المختلفة لهوياتهم الثقافية،([2]) وبأن من حقهم بالتالي إيجاد النظريات وأساليب البحث التي تناسب مجتمعاتهم وبيئاتهم، وظهرت بالفعل "أنثروبولوجيا أبناء البلاد الأصليين" indigenous anthropology واقتربت المسافة في المحيط الأنثروبولوجي بين "الأنا" و"الآخر،" وبدأت مرحلة جديدة من النقد الذاتي لدى الباحثين الغربيين يناقشون فيها مصداقية الأسس والنظريات التي طالما أقاموا عليها دراساتهم السابقة للشعوب الأخرى، ويكتشفون عالما جديدا من أساليب الحياة والتفكير غير الغربية تهز ثقتهم التقليدية بأن ما عهدوه من هذه الأساليب هو الوحيد في ثباته ومنطقيته.

    هكذا تظهر الرؤية الأنثروبولوجية ضرورة وفائدة التنوع الثقافي، ليس فقط لشعوب العالم النامي، بل أيضا لشعوب العالم الغربي ذاته، فالهيمنة وإلغاء "الآخر" وفرض الطابع الغربي كلها مقولات بائدة لا تصلح لعالم جديد تتفاعل في محيطه سائر الهويات على اختلاف مستوياتها، بما يحقق المصلحة لكل الأطراف وليس للطرف المهيمن وحده.
    أولا: أزمة الهوية الثقافية في عصر العولمة
    أ‌- تحديد المفاهيم


    العلاقة بين العولمة والهوية الثقافية هي العنوان الحديث لموضوع سبق طرحه خلال العقود الثلاثة الأخيرة بصيغ واصطلاحات عديدة، كالأصالة والمعاصرة، أو الهوية والنظام العالمي الجديد، أو التراث في مواجهة متطلبات العصر، وفي أكثر الحالات كانت تطرح الآراء ووجهات النظر في صورة أقرب للتساؤلات التي لا تجد إجابات حاسمة. ففي ختام ندوة "الهوية والتراث" التي عقدت بالقاهرة عام 1983م، جاء في البيان الذي يلخص أعمالها أنها "لم تصل إلى تعريف لمفهومي الهوية والتراث، ولا إلى تحديد دقيق لمكونات كل منهما"،([3]) وأن الندوة "أثارت العديد من التساؤلات والاستفسارات، وكان أهمها ما يتعلق بقضايا أزمة المجتمع العربي، الهوية والتراث، المشروع الحضاري العربي."([4]) وعلى الرغم من أن اصطلاح "العولمة" لم يكن قد ظهر في ذلك الحين، إلا أن ورقة العمل التي دارت حولها المناقشات اقتربت منه عندما طرحت هذا التساؤل: "ما مدى صحة القول بأن الثقافات على المستوى العالمي تتقارب في اتجاه تكوين ثقافة ذات طابع عالمي اليوم، وما مدى تأثير ذلك على الهوية؟"([5])

    وهو تساؤل مهم نجد صداه بعد ذلك في ندوة "العولمة والهوية" بالرباط عام 1997م، وفيها أيضا يتردد القول بأن "مفهوم العولمة لم يتحدد بعد، ويبدو أن الممارسة هي التي تمنحه أبعاده وتحديده،"([6]) ويقترب من هذا المعنى أيضا السيد ياسين في ندوة "العرب والعولمة"، ببيروت، عام 1997م، عندما يقول إنها "عملية مستمرة تكشف كل يوم عن وجه جديد من وجوهها المتعددة، ولا يمكن تعريف العولمة بغير تحديد تجلياتها وأبعادها."([7])

    وتتفق وجهات النظر بوجه عام على أن جوهر عملية العولمة يتمثل في سهولة حركة وانتقال الأفراد والسلع ورؤوس الأموال والخدمات والأفكار والمعلومات ووسائل الاتصال بين الدول والمجتمعات على النطاق الكوني.

    وتبرز قضية الهوية الثقافية بمجرد حديثنا عن الانتقال عبر الحدود وخاصة في مجال المعلومات والأفكار والاتجاهات والأنماط السلوكية. وهنا أيضا نجد آراء عدة في تحديد المفهوم تختلف حول بعض التفصيلات، ولكنها تتفق بوجه عام على أن هذه الهوية تعني السمات المعبرة عن الشعور بالانتماء لدى أفراد كيان اجتماعي معين، والوعي بخصوصيتهم المتمثلة في نسقهم القيمي، ورؤيتهم المتميزة للكون والإنسان، ورصيدهم المختزن من الخبرات المعرفية والتجارب والأنماط السلوكية، ونوعية تفاعلهم مع البعدين التاريخي والجغرافي كما تصوره مؤسساتهم الاجتماعية والسياسية.([8])

    وهكذا فالهوية الثقافية بهذا المعنى تعبر عن كيان معنوي له حياته وحركته الدينامية التي تساعده على أن يتفاعل مع كيانات معنوية أخرى إيجابا أو سلبا، وأن ينمو بسرعة أو ببطء، وأن يواجه ما يعترض طريقه من مستجدات بأساليب مختلفة تتناسب مع ما يميزه من العناصر السابقة. وإذا كان بالإمكان الحديث عن الهويات الثقافية دون اقترانها بموضوع العولمة، فمن غير المجدي دراسة العولمة دون البحث في علاقتها بالهويات الثقافية.



    2 - التنوع الثقافي والثقافة المهيمنة

    لقد بدأ عصر العولمة بالفعل في بعض مظاهره على الأقل، وكثر الحديث عن "القرية الكونية،" وارتفعت صيحات التحذير من تخلف البعض عن اللحاق بالركب، ويصل الأمر إلى حد التهديد في حديث العالم الأمريكي توم فريدمان بأن "العولمة أمر واقع، وعلى اللاعبين العالميين إما الانسجام معه واستيعابه، أو الإصرار على العيش في الماضي وبالتالي خسارة كل شيء، ذلك أن الخيارات باتت اليوم أضيق منها في الزمن الماضي، وأنه لابد من قبول الأمر الواقع."([9])

    ما طبيعة هذا الأمر الواقع؟ وما طبيعة هذه المباراة التي يطالب الجميع بالمشاركة فيها؟ من الواضح أن تناول هذا الموضوع يختلف باختلاف المجال موضع الدراسة عن العولمة، فالملاحظ في محيطنا العربي والإسلامي أنه بقدر السرعة في الاتفاق حول التجاوب مع المجال التكنولوجي منها، بقدر السرعة أيضا في الاتفاق حول الحذر من المجال الثقافي بعناصره المتنوعة، ولكن يبدو أن من الصعوبة بمكان فصل جوانب العولمة ومجالاتها بعضها عن بعض، فهي تيار متصل يتداخل فيه الاقتصادي مع السياسي مع الثقافي، وهذا يقتضي أن يتعامل كل مجتمع معه على أساس تضافر المجالات الثلاثة أيضا.

    وما دام حديثنا بالتخصيص عن الهوية الثقافية وعلاقتها بالعولمة، فإننا نشير أولا إلى الجدل الدائر حول اصطلاح "ثقافة العولمة،" وثانيا إلى بعض وسائل التأثير الثقافي للعولمة على الثقافات المحلية، وثالثا إلى اختلاف وجهات النظر بشأن الموقف تجاه هذا التأثير.

    1 في حين تجمع الآراء على أن العولمة حقيقة قائمة في مظاهرها المختلفة وخاصة الاقتصادية منها، إلا أنها تختلف حول كيفية التعبير عنها ومدى استحقاقها لاصطلاح "ثقافة،" فمحمد عابد الجابري يؤكد أنه "ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام، وإنما وجدت وستوجد ثقافات متعددة متنوعة،"([10]) لأن الثقافة عنده لابد أن ترتبط بوجود "أمة أو ما في معناها،" وعلى الرغم من أن عبدالإله بلقزيز يؤيده في أن ما يطلق عليه اصطلاح "ثقافة العولمة" إنما هو "خارج حدود التعريف والماهية الطبيعية لمعنى الثقافة،"([11]) إلا أنه يستخدم هذا المصطلح ذاته للتعبير عن التأثير الثقافي للعولمة، وليس باعتبارها كيانا ثقافيا بذاته، ويتمثل هذا التأثير عنده في أن العولمة هي ثقافة ما بعد المكتوب، أو هي ثقافة الصورة. ولا يشير السيد ياسين إلى العولمة باعتبارها "ثقافة" وإنما باعتبارها "عملية مستمرة يمكن ملاحظتها باستخدام مؤشرات كمية وكيفية."([12]) ويشير إليها الدجاني على أنها "ظاهرة تتداخل فيها أمور عديدة، ويكون الانتماء فيها للعالم كله عبر الحدود الدولية،"([13]) كما أن هناك إشارات أخرى إليها باعتبارها "نظاما عالميا" أو "أيديولوجيا،" وبوجه عام يميل كثير من الكتاب عنها إلى النظر إليها باعتبارها عدة عمليات في مجالات متنوعة ترتبط في أساسها بدول أو مجتمعات أو ثقافات بعينها لها ثقلها الواضح في ميزان القوى العالمي، وتغطي بأنشطتها وتأثيراتها الساحة الكونية كلها.

    2 كيف يكون للعولمة كل هذا الزخم من التأثير الثقافي؟ يتفق كل من عالج هذا الموضوع على الدور الأساسي الذي تلعبه ثورة الاتصال كوسيلة رئيسة لنشر هذا التأثير؛ والمثال الواضح لذلك القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، وما نشهده من تقلص دور الكلمة المكتوبة لحساب الصورة المرئية، ولهذا الأمر أهميته البالغة، لأن الكتاب مثلا كان يخاطب النخبة في حين يتسع جمهور الصورة ليشمل مختلف الشرائح السكانية، ولأن الكتاب كان يتوقف أحيانا عند حدود الدول، وقد لا يسمح له بالعبور لداخلها، في حين تتخطى الصورة التي يحملها الأثير الحدود السياسية والحواجز الجمركية.

    وتتفاوت الآراء في هذه الناحية بين باحث متشائم يرى أن الذاكرة التي كانت تنتعش دوما بفعل حفظ وتكرار الكلمة المكتوبة، وتساعد على تعميق الوعي، بدأت تخلي مكانها لتحتله المتابعة السريعة للصورة التي تعمل على تسطيح الوعي، وتأكيد دور الإنسان المشاهد،([14]) في حين يرى باحث آخر يغلب عليه التفاؤل أن "الدماغ والأعصاب ستكون هي أدوات الإنسان، وأن المعلومات هي مصدر سلطته، والمبادلات الإلكترونية طريقه في التعامل."([15]) ومن الواضح أن التحولات الحاسمة في تاريخ البشرية تثير دائما ردود الأفعال المتباينة بين الحذر من الجديد، والتطلع في أمل نحو هذا الجديد ذاته.

    وجدير بالذكر في هذا الصدد أن ثورة الاتصال الجديدة وخاصة في مجال الفضائيات ترتبط فيها الوسيلة التكنولوجية بالمضمون الثقافي للرسالة الإعلامية، فهناك تلازم بين شراء الأسرة لجهاز التلفزيون وبين تعرضها بمجرد استعماله لفيض من التأثيرات الثقافية المحلية والعالمية. وتشير إحدى الإحصائيات التي نشرتها منظمة اليونسكو عن الوطن العربي عام 1987م إلى أن شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث (كما في مصر وسوريا) أو نصف هذا الإجمالي (كما في تونس والجزائر)، وتبلغ النسبة في لبنان 2ر58 بالمائة.([16])

    ومن مظاهر التأثير الثقافي التي لفتت أنظار كثير من الباحثين في موضوع العولمة هذا الانتشار السريع للثقافة الشعبية الأمريكية في مجالات الموسيقى والسينما والتلفزيون والأطعمة السريعة والملابس وغيرها، وبالأخص في أوساط الشباب. ويفسر بول سالم ذلك بإرجاعه إلى عوامل عدة منها هيمنة شركات الإعلان الأمريكية على التسويق العالمي، وقوة شركات الإنتاج الفني واستغلالها لعصر ازدهار الأقمار الصناعية في ترويج مظاهر ثقافية نجحت بين الشباب الأمريكي، فتنقلها إلى الشرائح الشبابية في أنحاء العالم فيما يشبه "صناعة ثقافية خاصة بالشباب" تتوافر فيها كل عناصر الجذب والتشويق، وتشبع لديهم وهم مجاراة العصر والتشبه بالقرين الأمريكي. وإلى جانب الكسب العاجل من وراء هذا التسويق على المستوى العالمي، فإن الكسب الأهم يتمثل في أن شباب اليوم هم نخب المستقبل في بلادهم.([17])

    ويرى بوكسبرجر أن إحدى الكذبات التي شاعت بشأن العولمة هي قدرتها على إنتاج التنوع في كل مكان من العالم. فالذي يتحقق بالفعل هو تضييق مجالات هذا التنوع لصالح الشركات العالمية التي تفرض سطوتها على الأسواق من خلال المنافسة الحرة، وتسوق أنواعا محدودة من المنتجات على أعداد هائلة من البشر في شتى أنحاء العالم. ومن ثم ظهرت ما يسميه الباحث "ثقافة الأشياء" التي تعتمد من خلال الإعلانات المدروسة والمكثفة على إقناع المستهلك بأن ما تقدمه له الشركات المنتجة هو الذي يكفل له ما يتمناه من الحياة.([18])

    3 من الطبيعي أن تتفاوت وجهات النظر تجاه المواقف التي ينبغي تبنيها بالنسبة للتأثيرات الثقافية الأجنبية، وهي تتمثل بوجه عام في موقفين رئيسين، أحدهما يدعو إلى تقبل الجديد مع المحافظة على الهوية الثقافية بشرط عدم التعصب والانغلاق، والثاني يدعو إلى الحذر من تيار العولمة الثقافية لأن فيه تهديدا ولو على المدى الطويل لهذه الهوية، وللتنوع الثقافي بوجه عام.

    أ ) الموقف الأول يربط بين المظاهر المختلفة للعولمة باعتبارها منظومة واحدة، ويرى أن "إعطاء الثقافة هذا الدور وهذه الأهمية ليس سوى هروب من المواجهة في المجالات الأخرى، أي الاقتصاد والسياسة والعلم، وعندما نستنهض الثقافي فقط لمواجهة العولمة فإننا بذلك نتهرب من الشروط الضرورية الأخرى للمواجهة".([19]) وتتلخص هذه الشروط الضرورية في تحقيق الارتباط "الناجح" بين الهوية الثقافية والهوية السياسية، وأيضا بينها وبين الهوية الاقتصادية، ولا ترتبط الثقافة بالسياسة إلا إذا عبّرت الأخيرة عن تصورات الأولى وتطلعاتها، وعندئذ يلتحم الاثنان ليشكلا مقاومة فعالة لأية أخطار قريبة أم بعيدة، وعلينا في العالم العربي أن نحقق الاستفادة من "التراكم المعرفي" الخاص بهوياتنا الثقافية، إلى جانب الاستفادة من "الجديد المعرفي" الذي تحمله المتغيرات الحالية، لأن هذه المتغيرات تحمل اتجاهات فكرية ستترك بصماتها على كل تحليل أو تأويل سياسي مقبل.([20])

    ومن أنصار هذا الموقف أيضا من يذهب إلى أن العولمة تشير إلى أن الإنسانية تتجه نحو ثقافة عالمية ذات خصائص مشتركة، وأن الثقافات الخاصة تعمل على دمج العولمة ضمن مكوناتها وجعلها مناسبة لبيئاتها، بعد أن أكدت هذه العولمة قدرتها على تأسيس ضمير عالمي وأخلاق إنسانية عامة تقبلها جميع الثقافات، مقتنعة بأن في ذلك خيرها الخاص أيضا كالديمقراطية وحقوق الإنسان، "لذلك ليست هناك علاقة عكسية بين العولمة والهوية الثقافية، خاصة لو لبّت مفردات العولمة الثقافية احتياجات إنسانية حقيقية وغير مزيفة عند الآخرين."([21])

    ب ) الموقف الثاني يرى أن تيار العولمة هدفه توحيد العالم وإخضاعه لقوانين مشتركة تضع حدا فيه لكل أنواع السيادة.([22]) ويظهر ذلك جليا في المجال الاقتصادي من خلال الشركات متعددة الجنسيات، واتفاقية الجات، كما يظهر في المجال الثقافي عندما بدأت العناصر الثقافية تعامل معاملة السلع وتسوّق بدورها في ركاب التجارة الحرة. والمشكلة الأساسية في سوق العولمة أن عمليات التبادل والمنافسة التي تجري بين الأطراف المشاركة فيه غير متوازنة؛ فقوانين السوق تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القطب الأساسي الوحيد في عالم اليوم، وبالتالي يصبح اصطلاح "العولمة" هو الاسم الحركي لمعنى "الأمركة"([23]) أو يتساوى مع ما يطلق عليه الجابري "ثقافة الاختراق،"([24]) أو مع ما يسميه هانس بيتر مارتن "حضارة التنميط،"([25]) أو مع ما يسميه حجازي "ثقافة الاستهلاك."

    وفي إطار هذا الموقف أيضا، يرى حجازي أن العولمة صياغة جديدة لإعادة المركزية الرأسمالية في ثوب جديد، وهي تتضمن "تشكيل قيادة عالمية تستحوذ على النفوذ والقوة، وتتكون من الصفوة الاقتصادية في العالم، (وهي) تتجاوز في ثقافتها ومصالحها وتطلعاتها كل العقائد والدول والحواجز الاجتماعية."([26])

    ولا ينفي الأمريكيون أنفسهم الدور القيادي لأمريكا في عالم اليوم بوجه عام وبالنسبة لعملية العولمة بوجه خاص. فمنذ مطلع التسعينيات، بدأ هنري كيسنجر كتابه "الدبلوماسية" عام 1994م بالقول "يبدو أن في كل قرن بلادا تنبري بقوتها وإرادتها وبفيضها الفكري والأخلاقي لتسوّي النظام الدولي بحسب قيمها الخاصة،"([27]) ويقول إنه إذا كانت فرنسا فعلت ذلك في القرن السابع عشر، وبريطانيا فعلته في القرن الثامن عشر، ثم تلتهما النمسا في القرن التاسع عشر، فإن دور الولايات المتحدة يأتي خلال القرن العشرين. ويؤكد كلينتون هذا المعنى في كتابه "بين الأمل والتاريخ: كيف تستعد أمريكا لتحديات القرن الواحد والعشرين" عام 1996م. فيرى أن على الولايات المتحدة الأمريكية "أن تواصل في القرن الواحد والعشرين قيادة العالم نحو السلم والحرية والازدهار، وهو ما يقتضي الوفاء الدائم للقيم الأمريكية حتى تبقى أمريكا دوما هي المنتصرة."([28])

    وإذا كانت أمريكا منطقية مع ثقافتها الذرائعية التي تجعل مصلحتها في الأمن والازدهار فوق كل اعتبار، فما طبيعة العمليات الثقافية التي تتخذها المجتمعات الأخرى لمواجهة الآثار السلبية للعولمة وخاصة في وطننا العربي الإسلامي؟

    3- واقع الهيمنة وعمليات المواجهة


    نود أن نفرق أولا بين مواجهة الهيمنة والاختراق الثقافي وبين مجابهة العولمة كواقع عصري، فهذه المجابهة لم تعد أمرا ممكنا لا بالنسبة للدول الضعيفة ولا الدول القوية على حد سواء، في حين تحاول الثقافات المختلفة في شتى أنحاء العالم إيجاد آليات تواجه من خلالها ما يهدد مقوماتها وخصوصياتها. وهذا حق مشروع لها، بل إنه سمة ملازمة لطبيعة أية ثقافة خلال عمليات التداخل والاحتكاك الثقافي. وتحفل دراسات العولمة بأمثلة عديدة على الآليات التي ظهرت ومازالت تظهر دفاعا عن الخصوصيات الثقافية للمجتمعات، ونجد من بينها -إلى جانب الدول النامية- دولا كبرى كفرنسا واليابان والنرويج، ويأخذ الأمر طابعه الرمزي في معارضة الرئيس شيراك إقامة مطعم لشركة "ماكدونالد" في برج إيفل "ليظل فضاؤه على الأقل منفردا بنمط العيش الفرنسي."([29])

    وبالنسبة لعالمنا العربي والإسلامي، ذهب عدد من الباحثين إلى القول بأن انشغاله الحالي بالدفاع عن هويته الثقافية في مواجهة العولمة هو رد فعل لأزماته وانكساراته في العقود الأخيرة، وهو قول مبالغ فيه لأن هذا الانشغال ليس وقفا على مجتمعاتنا. فالملاحظ أن الثقافات بطبيعتها مهما كانت مستوياتها في حالة استعداد دائم للدفاع عن هوياتها، ويرتفع هذا الاستعداد إلى درجة الاستنفار في فترات الأزمات بصفة خاصة. ويحدثنا التاريخ عن أمثلة عديدة تكشف عن تواصل المواجهات التي خاضتها هويتنا أمام الأخطار العديدة التي كانت تهددها خلال العصور المتوالية. ومن الطبيعي أن يمتد هذا التواصل حتى وقتنا الحاضر الذي تحاول فيه ثقافة الهيمنة فرض سيادتها على "الآخر."

    والجدير بالذكر أن الاتجاه الواضح لدى الباحثين العرب هو تأكيد الدعوة إلى الموقف الإيجابي من الجوانب المفيدة من تيار العولمة، ولا خوف على هويتنا من ذلك، لأن ثقافتنا الإسلامية قادرة على المحافظة على ثوابتها، وفي الوقت نفسه على التجاوب مع الجديد وتوظيفه ليخدم قيمها ومصالحها.([30]) والمطلوب في عصر العولمة ألا نتطرف سواء نحو الانغلاق أو نحو التعلق بكل جديد، بل الانخراط في عصر العلم والتقنية كفاعلين مساهمين، مع حماية خصوصيتنا الثقافية من الاختراق.([31]) ومن المحاولات البارزة في هذا المجال "الخطة الشاملة للثقافة العربية" التي صدرت عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1990م، التي صيغت على أساس أن "مجتمع الغد مليء بتحديات المعرفة المتزايدة بشكل كبير، وتحديات التقنية بشكل واسع."([32])

    ويوضح سليمان خلف أن مجتمعات الخليج تقدم نموذجا حيّا لإمكان التفاعل بين المحلية والعالمية، بحيث لا تظهر الحاجة للاختيار بين أي منهما، بل يمكن الوصول إلى ما يمكن تسميته "محلية معولمة." وفي هذه الحالة تستخدم عملية العولمة كإطار نظري لفهم وتحليل العديد من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتشكلة في هذه المجتمعات، مثل الملامح الجديدة للمدن والبيوت والفنادق الدولية، وتنوع أساليب الخطاب التنموي والعلمي والسياسي والتراثي، والتعامل مع الابتكارات التكنولوجية، وخاصة في مجال الإعلام والبث الفضائي، وإحياء عناصر التراث المؤكدة للخصوصيات الثقافية، "إن كل هذه الصور تكشف لنا أن المحلية من حيث هي أيديولوجيا وممارسة لديها القدرة على توطين بعض صيغ وأشكال العالمية عن طريق تغليفها في كسوة جديدة وإعادة إنتاجها وتوظيفها في تشكيلات متنوعة."([33])

    لقد أثار صمويل هنتنجتن جدلا واسعا حول نظريته عن صراع الحضارات عام 1993م. وكان أحد تنبؤاتها أن ثقافات الأمم سوف تذوب في نهاية الأمر في عالمية يسيطر عليها الغرب؛ ولكنه عاد فسجل رأيا جديدا عام 1996م في دراسة له بعنوان "الغرب متفرد وليس عالميا" ذكر فيها "أن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية، واستمعت إلى الموسيقى الغربية؛ فروح أية حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد... ولذلك فإن الوقت قد حان لكي يتخلى الغرب عن وهم العولمة، وأن ينمي قوة حضارته في مواجهة حضارات العالم."([34]) وهكذا يدفعه التزامه بنظرية الصراع إلى هذه النتيجة على الرغم من واقعيته في إدراك استحالة عملية التذويب الثقافي.

    ثانيا: إشكالية الهوية الثقافية كما تصورها الأنثروبولوجيا


    لا نتطرف كثيرا عندما نحكم بأن الموقف الذي عبر عنه هنتنجتن يفرضه أسلوب معرفي ينتشر في الغرب يقوم على رؤية العالم منقسما بين غالب ومغلوب، أو بين صانع ومستهلك، أو بين متقدم ومتخلف، وتحت غطاء الشعارات والدعاوى البراقة تفصح العولمة -مع إيجابياتها العديدة عن تأثيرات سلبية لتحكم هذه الرؤية القائمة على الهيمنة. ويبدو أن ميراثا طويلا من علاقة القهر بين الغرب وغيره من الشعوب ترك أثره في عمق العلاقة المتواصلة بين الطرفين.

    وتمثل الأنثروبولوجيا المجال الأوضح لتصوير هذه العلاقة، لأنها بمثابة عرض علمي لتطور الرؤية الغربية إلى "الآخر" من الاستعلاء المتطرف إلى الاعتراف بالهوية، وحتى الإيمان بعالم يسوده التنوع والتفاعل بين الهويات المختلفة. وهذه المرحلة الأخيرة التي أكد أهميتها وضرورتها علماء الأنثروبولوجيا تمثل الاتجاه الذي ينبغي أن يسير فيه المسؤولون عن توجيه سياسات العولمة.

    ولكي تتضح معالم هذا التطور في الرؤية نقسم حديثنا إلى مراحل متعددة دون أن يعني ذلك أنها منفصلة زمنيا بعضها عن بعض، أو أن كل مرحلة منها لا تبدأ إلا بانتهاء سابقتها، بل يعني أنها جميعا متداخلة، ولا نوردها متعاقبة إلا بغرض إبراز المحور الأساسي في كل مرحلة منها.


    أ - مرحلة الهيمنة


    تؤكد سائر الدراسات الخاصة بنشأة الأنثروبولوجيا على تأثرها عند نشأتها بعدة عوامل من أهمها حركة المد الاستعماري، وازدهار الثورتين العلمية والصناعية في القرن التاسع عشر بأوروبا، وما صاحب ذلك من اعتقاد الأوروبيين أن إنجازاتهم ترجع إلى تفوقهم الحضاري، وأنهم من ثم يمثلون الدرجة الأعلى في سلم الترقي البشري. وكان هذا أحد العوامل التي جعلت موضوع السلالات البشرية والمقارنة بين الاختلافات الفيزيقية فيها يمثل المحور الأساسي للعلماء المهتمين بدراسة الإنسان في النصف الأول من ذلك القرن.



    ومع احتضان الجامعات لهذه الدراسات، وظهور العديد من الجمعيات العلمية في أوروبا وأمريكا، نشطت الرحلات إلى أماكن المجتمعات التي وصفت، في ذلك الوقت، بأنها "بدائية" أو "وحشية،" وهو وصف ينطلق من النظرة التطورية التي تأثرت بها معظم العلوم الإنسانية في النصف الثاني من ذلك القرن، ويكشف عن روح الاستعلاء التي سادت البحوث والنظريات خلال هذه المرحلة، فهو يعبر عن حكم تقويمي مسبق على شريحة واسعة من المجتمعات بأنها تمثل المراحل المبكرة من مسيرة الحضارة الإنسانية، إلى حد أن جيمس فريزر، مؤلف "الغصن الذهبي،" الذي اعتمد في جمع مادته العلمية عن هذه المجتمعات على غير المتخصصين، ردّ على من اقترح عليه القيام بدراسة حقلية في إحداها بقوله: "أعوذ بالله! "([35]) ومع هذا "فقد بدأت الهيمنة الاستعمارية تدرك أن حكم الأهالي (في المجتمعات البدائية) لا يستقيم إلا بمعرفة متعمقة للغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم لضمان استمرار هذه الهيمنة،"([36]) وأنشئت مراكز البحوث التي تعاون معها عدد من علماء الأنثروبولوجيا، وبدأت تنشط الدراسات الحقلية التي يتعايش خلالها الباحث المتخصص مع الأهالي لمحاولة فهم ودراسة موضوع محدد في إطار كيان اجتماعي شامل.

    وهناك وجه آخر للهيمنة الغربية يتصل هذه المرة بمجتمعات عريقة الحضارات في آسيا وأفريقيا، كانت بدورها هدفا لحركة المد الاستعماري، وكانت ومازالت حقلا واسعا لدراسات "الاستشراق." وقد أوضح إدوارد سعيد كيف أن معظم هذه الدراسات لم يتخلص من الأسلوب المعرفي الذي أشرنا إليه، "فكل أوروبي كان فيما يمكن أن يقوله عن الشرق عنصريا، إمبرياليا، وإلى درجة كلية تقريبا عرقي التمركز،"([37]) وهو يفسر ذلك من خلال تصنيفه لحركة الاستشراق إلى ظاهر وباطن. فالاستشراق الظاهر يمكن أن تختلف فيه آراء المستشرقين عند دراساتهم للمجتمعات الشرقية ولغاتها وآدابها وتاريخها وما إلى ذلك. أما الاستشراق الباطن، فإنه يعبر عن اللاوعي لديهم جميعا؛ بحيث يمكن القول إن "كل تغيير في المعرفة بالشرق مهما كان نوعه يحدث حصريا تقريبا في الاستشراق الظاهر. أما إجماعية الاستشراق الكامن واستقراره وقدرته على الاستمرار، فهي نوعا ما ثابتة لا تكاد تتغير."([38])

    هذا الثبات نتج عنه أمران مهمان، أولهما أن هذا الرصيد الكامن من المشاعر المتحيزة عرقيا سرعان ما يثيره لفظ "الشرق" أو "الشرقي"؛ بحيث لم يعد اللفظ يشير في ذهن الغربي إلى الشرق الحقيقي الواقعي، وإنما إلى ما يحيط به من معان ومضامين مترسبة لديه. " وهكذا فقد كان مجرد استخدام كاتب ما للفظة "شرقي" إشعارا كافيا لكي يحدد للقارئ هوية جسد معين من المعلومات حول الشرق."([39]) والأمر الثاني وهو الأخطر أن الغربيين في ضوء ما سبق "رأوا الشرق موضعا يتطلب العناية الغربية وإعادة البناء الغربي، بل وحتى الخلاص الغربي." ([40])



    2 مرحلة تقبل الغرب للتنوع الثقافي وتجاوز الدعاوى التقليدية

    في مقابل هذا الجانب السلبي لحقبة تكوين المستعمرات، ظهر جانب إيجابي تمثل في الدفعة الواضحة للعلوم الإنسانية من خلال اتساع آفاق البحث حول الإنسان، وتدفق المعلومات والبيانات عن مجتمعات وثقافات غير غربية في شتى أنحاء الأرض، واجتمع لهذه العلوم خلال القرن التاسع عشر مصدران مهمان لإحداث التطوير فيها، مادة غزيرة للبحث، ونظريات ومناهج متأثرة بالعلوم الطبيعية التي أكدت نجاحها في ذلك الوقت. وانعكس ذلك بالفعل على اتجاهات علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع في النصف الثاني من ذلك القرن.

    ومع النقد الموجه لنظريات "أصحاب المقاعد الوثيرة" تزايدت الحاجة إلى انتقال الباحث إلى حقل الدراسة، ومعايشة الأهالي، أبناء الثقافة أو المجتمع موضع البحث، وتبلورت اتجاهات جديدة غير تطورية؛ ولكن بقيت آثار الحقبة القديمة عند مطلع القرن العشرين ماثلة في رغبة واضحة لدى العلماء في عقد المقارنات بين ما "نحن" عليه وما "هم" عليه، فظهرت المقارنات بين عقلية البدائي وعقلية المتحضر عند فرانز بواس عام 1916م، وعند ليفي بريل عام 1922م، وبين أساليب التصنيف عند دوركايم عام 1903م، وبين كيفيات الإدراك الحسي عند ريفرز عام 1905م. ولكن المهم هنا أن المجتمع البسيط أو الثقافة البسيطة أصبح ينظر إليهما ككيانات لها هويتها الخاصة المتميزة عن المجتمعات والثقافات الغربية، ومن ثم تعقد المقارنات بينهما من أجل الوصول إلى نتائج علمية، وليس من أجل إثبات أن ثقافة ما تمثل مرحلة الطفولة المبكرة لثقافة أخرى. فدوركايم مثلا ينتهي من دراسته إلى تأكيد دور المجتمع في صياغة أساليب التصنيف للموجودات التي يعايشها أفراد المجتمع، وليفي بريل ينتهي إلى القول بأن للتفكير "البدائي" نسقه ومنطقه الخاص الذي يربط فيه بين ما هو واقعي وما هو غير واقعي، بطريقة تساعد على توازن المجتمع واستمراره حتى وإن خالف ذلك قانون عدم التناقض. ويعارض بواس هذه النتيجة، ويؤكد في بحثه أن قوانين الفكر لا تختلف من نوع بشري لنوع آخر، وإنما الاختلاف يكون في محتوى التفكير المتأثر بالبيئة وليس في عملية التفكير ذاتها.

    وتتقدم الأنثروبولوجيا في الطريق نحو تفهم "الآخر" والاعتراف بسماته الثقافية المتميزة مع بدء ازدهار البحوث الحقلية على أيدي مالينوفسكي وبراون وإيفانز برتشارد في إنجلترا، وفرانز بواس وتلاميذه في أمريكا، وهنا نجد تحولا مهما يتمثل في محاولة دراسة الثقافة من داخلها. ولا يعني هذا فقط عدم الاكتفاء بالمظاهر المادية الخارجية للثقافات، وبدء الاهتمام بالمشاعر والعلاقات الاجتماعية وردود الفعل الإنسانية، بل يعني أيضا محاولة الوصول إلى الكيفية التي يرى بها الفرد في مجتمع البحث مظاهر العالم من حوله والتصورات التي يحملها عنها، متأثرا في ذلك بنشأته في إطار ثقافته المحلية، ومثلت عملية الغوص هذه إلى باطن الثقافة، وباطن الإنسان الذي يمثلها، الأساس لظهور مدرسة "الثقافة والشخصية" في أمريكا.

    وفي إطار هذا التحول، ظهرت عشرات من الدراسات الحقلية تغطي مجتمعات في شتى أنحاء العالم، وساعدت على إبراز عدة حقائق أهمها:

    1 تمثل الثقافات التي كانت توصف بأنها "بدائية" كيانات من العلاقات والنظم والأنساق لا تقل تعقيدا عن الكيانات الثقافية التي توصف بأنها "حديثة،" ولكن الاختلاف يكون في الصيغ التي تتآلف بها مكونات كل ثقافة فيما بينها، وما يقال عن الثقافات يقال كذلك عن اللغات؛ فليست هناك لغة متقدمة وأخرى متخلفة، وإنما العبرة بمدى تلبية اللغة للحاجات الثقافية للناطقين بها.

    2 تدعم مبدأ "النسبية الثقافية" على ضوء الحقيقة السابقة، وقضى على مقولة السلم الحضاري من الأدنى إلى الأعلى، وظهرت نظريات أخرى عن الدوائر والمناطق الثقافية توزع بينها ثقافات العالم على أساس حضور أو غياب سمات معينة، وكان لهذه النظريات بدورها عيوبها التي اكتشفتها التطورات اللاحقة للأنثروبولوجيا.

    3 ظهرت بجلاء العلاقة الوثيقة بين الثقافات وبين البيئات الطبيعية التي توجد فيها، واعتبر النسق الإيكولوجي أساسيا ضمن منظومة الأنساق في الثقافة أو البناء الاجتماعي، ولم يعد المفهوم الأنثروبولوجي للبيئة قاصرا على المعالم الجغرافية، وإنما تعبيرا عن علاقة تفاعل بين الثقافة والمكان الذي توجد في إطاره.

    4 صحب هذا الاهتمام بالبعد الجغرافي للمجتمع أو الثقافة اهتمام بالبعد التاريخي، وظهرت أساليب مختلفة للبحث تعوض عدم وجود تاريخ مكتوب لبعض المجتمعات، وزاد الحرص على جمع المادة الفلكلورية التي تكشف عما يمكن اعتباره تراثا لمجتمع البحث، ونشطت الدراسات المتصلة بالتغير الاجتماعي والثقافي، وتأثيرات التحديث والاحتكاك بالمجتمعات الأخرى.

    5 ظهرت في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، مجموعة من الدراسات، في إطار مدرسة الثقافة والشخصية، تركز على الهويات الثقافية ليس فقط للمجتمعات البسيطة ذات الأعداد المحدودة من السكان، بل أيضا لمجتمعات صناعية ذات كثافات سكانية عالية كاليابان وروسيا وأمريكا وإنجلترا، وشاع اصطلاح "الطابع القومي" أو "الشخصية القومية،" وانتقل بعد ذلك من محيط الدراسة الأنثروبولوجية إلى العلوم الإنسانية الأخرى.

    ويلاحظ في معظم الاتجاهات التي تبلورت بعد الحرب استمرار هذا التركيز على الهوية الثقافية للمجتمعات الذي بدأه الاتجاه السيكولوجي، وبرزت عدة اتجاهات مهمة في هذا الشأن نشير إليها فيما يلي:

    1 مع نشاط حركات الاستقلال بين دول العالم الثالث، وما تبعها من نشاطات متصلة بالتنمية والتحديث، برز دور بعض الأنثروبولوجيين الذين تبنّوا قضايا هذه الدول، ووجهوا الأنظار إلى ضرورة اهتمام مخططي مشروعات التنمية بوضع الخصائص الثقافية للمجتمعات المحلية التي تنفذ فيها موضع الاعتبار، وإلا فإن النتائج لن تحقق ما هو متوقع منها، وأطلقوا على دعوتهم عبارة "التنمية من القاعدة وليست فقط من القمة،" واستجاب البنك الدولي لهذه الدعوة وحرص على إشراك عدد من الأنثروبولوجيين ضمن فرق العمل في مشروعات التنمية التي كان ينفذها.

    2 أكد الاتجاه المعرفي على أهمية دراسة الهوية الثقافية للمجتمع من زاوية تختلف عن الزوايا المعهودة، وهي محاولة اتخاذ اللغة المحلية مدخلا للنفاذ إلى مكونات البناء المعرفي الكامن في عقول الأفراد المنتمين إليه؛ فالفهم السليم لثقافة أي مجتمع ينبغي أن يتم على أساس كونها نسقا معرفيا متميزا، وأن أفرادها يتشرّبون عناصر هذا النسق خلال نشأتهم، فيصبح لهم طابع خاص، سواء في كيفية اكتسابهم لخبراتهم عن العالم المادي والاجتماعي المحيط بهم، أو في كيفية تفسيرهم للوقائع والأحداث التي تمر بهم، واتخاذهم التصرفات المناسبة تجاهها، أو في تشكيل نسقهم القيمي الذي يحكم سلوكهم في شتى المواقف، ومن ثم ظهرت اصطلاحات تعبر عن هذه المعاني مثل "الخرائط المعرفية،" أي الترجمة الثقافية لمعالم البيئة المادية والاجتماعية، والتي ترشد الفرد في تعامله معها طوال اليوم، ومثل "الأساليب المعرفية،" وهي الطرق التي تحمل معنى الثبات في أداء أفراد مجتمع ما لأنشطتهم المعرفية، وحل المشكلات خلال تعاملهم مع العالم الخارجي.

    3 وكما عالج الاتجاه السيكولوجي الهوية الثقافية للمجتمعات من حيث الخصائص النفسية والسلوكية والتنشئة الاجتماعية، وكما عالجها الاتجاه المعرفي من حيث بنائها العقلي وخصائصها اللغوية، فإن الاتجاه الإيكولوجي اهتم بعلاقتها بالوسط البيئي، وربط بين خصائص الثقافة، ونوعية البيئة المحيطة بها، والسمات الشخصية للأفراد المنتمين إليها، وأكد
    AliTilA
    AliTilA
    عضو نشيط
    عضو نشيط


    عدَد مشآرڪآتے• : 79
    نْـقٌـآطُـيَـے• : 90
    تقييےـم الأَعْضآء لكـَ • : 3
    تخصُصِے الدرآسے• : medecine
    مْــزًاآجٍـے• : Rigolo
    عآـمْے بلدِيْے • : الجزائر
    sms : hi freinds
    مجموع أوسمتي: 01
    العضو المميز

    زهرة رد: أزمة الهوية الثقافية في عصر العولمة: رؤية أنثروبولوجية

    مُساهمة من طرف AliTilA 2010-03-30, 20:28

    thank's

      الوقت/التاريخ الآن هو 2024-04-19, 20:33